الانتخابات التونسية في الميزان
صلاح الدين الجورشي
مرة أخرى، تصدم النخبة التونسية باكتساح الرئيس قيس سعيد المشهد الانتخابي بشكل مذهل. فجميع الرهانات والمبادرات التي وضعتها الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني المستقلة فشلت في تغيير موازين القوى، مما جعل العديد من هذه الأطراف تعترف صراحة أو ضمنيا بالهزيمة، وتدعو إلى وقفة تأمل، رغم أن المعركة لم تكن متكافئة على أكثر من صعيد.
لعل السؤال الأول الذي يتبادر إلى الذهن : هل تم تزوير انتخابات 6 أكتوبر الأخيرة؟.
انطلق الذين طرحوا هذا السؤال من الرقم السحري الذي برز من جديد، والمتمثل في فوز الرئيس المتخلي بنسبة 69،90 %. وهو رقم وارد غير في ظل الأنظمة الديمقراطية. لكن عديد المصادر المطلعة، والتي واكبت عملية الاقتراع، استبعدت حدوث تلاعب موثق بصناديق الاقتراع. حتى فريق الحملة الانتخابية للمرشح المستقل عياشي الزمال أقر بعدم حصول تزوير. وهو ما عمق الحيرة في صفوف المعارضين لقيس سعيد والمراقبين للشأن التونسي.
لا يفهم المسار إلا بالرجوع إلى مقدماته
لتقييم الحدث بشكل موضوعي، لابد من العودة إلى مجمل المقدمات التي سبقت ذهاب الناخبين للإدلاء بأصواتهم. هناك مسار طويل، بدأ بليلة 25 جويلية 2021، عندما قرر الرئيس قيس سعيد، مدعوما في ذلك بالمؤسسات الصلبة، سحب الصلاحيات من مجلس النواب، وحل الحكومة، والشروع في بناء منظومة سياسية مغايرة لما حصل بعد الثورة. وبناء على مرسوم 117 أصبح رئيس الجمهورية يتمتع بكامل الصلاحيات التي تسمح له بأن يفعل ما يريد، دون المرور بمخلف المؤسسات الدستورية التي تشكلت بعد 14 جانفي 2014.
في هذا السياق، بدأ التمهيد لدورة ثانية للرئيس قيس سعيد. فبعد كتابته لدستور 2022، تم تعديل القانون الانتخابي بما يتلاءم مع المرحلة الجديدة، حيث حذفت عديد الحقوق التي كان يتمتع بها المتنافسون من قبل. ورغم ذلك، عبر حوالي المائة عن رغبتهم في الترشح. لكن الكثير منهم سرعان ما تراجعوا عن قرارهم خوفا من مواجهة المؤسسات القانونية والمالية والأمنية للدولة، ولم يبق منهم سوى 17 مرشحا. تم الاشتغال على هؤلاء من قبل الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، التي أسقطت معظمهم بطرق اعتبرتها المنظمات الحقوقية ” إجراءات ملتوية ماسة بمبدأ الحق في الترشح”. ولم تعترف الهيئة إلا بثلاث مرشحين فقط من بينهم قيس سعيد.
في المقابل، لم يستسلم بقية المرشحين الذين تم إقصاؤهم، فتوجهوا إلى المحكمة الإدارية التي تعتبر أعلى هيئة قضائية في تونس، والتي أنصفت ثلاثة منهم وهم منذر الزنايدي وعماد الدايمي وعبد اللطيف المكي، وطلبت المحكمة الإدارية بوجوب إعادتهم إلى السباق الانتخابي وقضت بوجوب إعادتهم إلى السباق الانتخابي. وبدل أن تستجيب هيئة الانتخابات التي عينتها لرئاسة الجمهورية لحكم المحكمة، رفضت تنفيذ ذلك في سابقة هي الأولى من نوعها، تم في المقابل رفع قضايا ضدهم، وحكم على بعضهم بالحرمان من الترشح للانتخابات مدى الحياة ( عبد اللطيف المكي ) وصدرت في حق الآخرين بطاقات تفتيش دولية…
في هذا المنعطف، أحيلت الكرة إلى مجلس النواب الذي خضع للطلب السياسي، وصوت لصالح إدخال تعديلات جديدة على قواعد اللعبة، وذلك بسحب بعض الصلاحيات من المحكمة الإدارية ومنحها إلى محكمة الاستئناف، وهو ما اعتبره رجال القانون الدستوري خرقا خطيرا لاستقلالية القضاء. وبما أن رئاسة الجمهورية سبق لها أن دخلت في معركة مع مؤسسة القضاء، ورفضت وصفها بالسلطة، وتم تحويلها في دستور 2022 إلى وظيفة، وبالتالي فقد القضاة القدرة على الاحتجاج أو رفض تنفيذ القرارات الموقعة من قبل الرئيس قيس سعيد.
ويعود هذا التعديل العاجل في صلاحيات الهيئات القضائية، إلى خشية السلطة من احتمال أن تصدر محكمة التعقيب حكما جديدا يطعن في شرعية الانتخابات وفي نتائجها، وهو من شأنه دخول الدولة في أزمة خطيرة.
هكذا توالت الخطوات والإجراءات الفوقية المضيقة من مجال التعددية الانتخابية، وتجعل السباق بين المرشحين غير متكافئ وغير عادل.
المعارضون يغيرون التكتيك
عند الوصول إلى هذه المحطة، قام المعارضون للرئيس سعيد بدراسة الاحتمالات المتوفرة، فمال جزء منهم نحو مساندة أحد المرشحين الذين قبلوا رسميا. فقام البعض بالدعوة إلى دعم عياشي الزمال بصفته مرشحا مستقلا، وهو رجل أعمال ليس له تاريخ سياسي، وله توجهات ليبرالية. لقد ظن هذا المواطن بأن الطريق مفتوح فتقدم ليمارس حقه في منافسة نظيفة، فإذا به يجد نفسه بالسجن ومحكوما بحوالي عشرين عاما بتهمة تزوير أسماء الداعمين له. ومع ذلك استمرت مساندته، وظن أنصاره بكون مرشحهم قد وصل إلى الدور الثاني، لكن النتائج الرسمية أثبتت خلاف ذلك.
هذا هو المسار الماراطوني الذي مهد للانتخابات، وتحكم في مختلف مراحلها ومنعرجاتها ومفاصلها.
مأزق المعارضة ومسؤوليتها في الفشل
تتحمل المعارضة مسؤولية هامة وثقيلة في جعل هذه المحطة السياسية تنتهي على هذه الشاكلة.
صحيح أن الأحزاب والجمعيات المستقلة نددت بالمسار تباعا خاصة بعد أن اتضحت النوايا، فأصدرت بيانات في هذا الشأن، وانتهى معظمها إلى تنظيم سلسلة من الاحتجاجات. لكن مع ذلك، حافظت أجسام المعارضة على انقساماتها التقليدية، والتي تعود إلى ما قبل انفراد قيس سعيد بالسلطة. رفضت التنسيق فيما بين مكوناتها المتنافرة رغم وجود العديد من قادتها في السجن. وهو ما جعلها مكشوفة أمام الرأي العام، وفاقدة لوزنها السياسي والتنظيمي أمام السلطة والأطراف الخارجية. وظهر ارتباكها بالخصوص مع اقتراب الموعد الانتخابي. فمن ناحية اختلفت حول المشاركة من عدمها، وهو ما جعل أنصارها بدون بوصلة، وفي الأخير مالت جميع الأحزاب نحو الدعوة إلى المقاطعة، بما في ذلك حركة النهضة التي لا تزال تعتبر الحزب الأكبر بحكم قاعدتها الحزبية العريضة وصلابة هياكلها التنظيمية، وذلك رغم الانقسامات التي حصلت في صفوفها. وتعتبر المقاطعة الاختيار المريح، الذي لا يؤثر على مجرى الأحداث، ويعطي للرئيس المنتهية ولايته فرصة أكبر لتحقيق انتصار عريض. وهو ما حدث يوم الانتخاب.
المعارضة في موقع الاتهام
نسيت المعارضة الانعكاس السلبي الذي خلفته تجربتها السلبية في ذاكرة عموم التونسيين، وهو عامل مهم استغله أنصار قيس سعيد في حملتهم الأخيرة، حيث قاموا ببث مشاعر الخوف من عودة الوجوه البارزة للأحزاب التي حكمت فيما يسمونه بحقبة ” العشرية السوداء “. فكان لتلك الحملة التأثير الواسع في صفوف الذين شاركوا في الاقتراع العام وانحازوا كليا لصالح النظام.
من جهة أخرى، استهانت المعارضة بشخص قيس سعيد، وتعاملت معه بكثير من التعالي والاستخفاف. ولم تدرك أن للرجل نقاط قوة رشحته ليكتسب ثقة جزء هام من الشارع التونسي ( حصل سعيد على مليونين وأربعمائة ألف صوت ). ورغم أن نسبة المشاركة تعتبر من بين النسب الضعيفة في العالم التي لم تتجاوز 28 % إلا أن ذلك لم يغير من الواقع شيئا، حيث تمكن الرجل من البقاء في السلطة لخمس سنوات قادمة.
لقد راهنت المعارضة على ضعف أداء سعيد خلال السنوات الخمس الماضية، واعتمدت على الأزمة الاقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد، واعتبرت أن العزلة السياسية التي تمر بها مؤسسة الرئاسة، وتراجع الحريات في البلد، من شأنه أن تضعف من رصيده الانتخابي . لكن كشفت الانتخابات أن ذلك كله لم يؤثر على شعبية الرجل في صفوف الموالين له، وأن الرأي العام المنحاز له بقي ينظر إليه كشخص نظيف، مستقل عن مختلف اللوبيات. كما صدق الرأي العام الرواية الرسمية القائلة بوجود قوى تقف وراء تفقير تونس، وتعمل ضد مصلحة البلاد. كما ثمن الرأي العام وقوف الرئيس سعيد ضد صندوق النقد الدولي، ومحاولته تقليص الديون الخارجية وسعيه للتخلص منها، ورفضه لسياسات الهيمنة الغربية. هذه الجوانب لعبت دورا هاما في نجاحه، وأبطلت مفعول رهانات المعارضة وتوقعاتها.
المستقبل الغامض والمزدوج
الأيام القادمة وحدها ستكشف ما إذا كان الرئيس سعيد قادرا على تعديل أسلوبه في الحكم، وإعادة تقريب الفجوة بين الفئات والأطراف السياسية والاجتماعية، وتطبيع العلاقة مع النخب القديمة والجديدة، أم أنه سيواصل السير في نفس الاتجاه، مستعملا اليد الغليظة لضرب خصومه مهما كانت ألوانهم ومواقعهم. وحدها الأيام القادمة ستحكم على الرجل وتجربته سواء بالسلب أو بالإيجاب، وذلك رغم نقاط الاستفهام التي تطرحها عمليات الاستقراء للمستقبل القريب والبعيد لتونس.