عيد ميلاد سعيد يوهان!

عيد ميلاد سعيد يوهان!

لقد مرّ أكثر من عشرين عامًا منذ أن سعدتُ بلقائك للمرة الأولى لمّا صِرتُ مهتمًا بدراسات السلم. كنّا في الجزائر على وشك الخروج من عقد عانت فيه البلاد من أكثر الصراعات العنيفة تدميرًا في نهاية القرن العشرين، أزمة حادّة نجمت عن انقلاب يناير 1992 والقمع الذي تلاه، ممّا أسفر عن مقتل ما يقرب من ربع مليون ضحية…

عزيزي يوهان،

Galtung Arouaتروندهايم، النرويج، 9 يونيو 2007 لقد مرّ أكثر من عشرين عامًا منذ أن سعدتُ بلقائك للمرة الأولى لمّا صِرتُ مهتمًا بدراسات السلم. كنّا في الجزائر على وشك الخروج من عقد عانت فيه البلاد من أكثر الصراعات العنيفة تدميرًا في نهاية القرن العشرين، أزمة حادّة نجمت عن انقلاب يناير 1992 والقمع الذي تلاه، ممّا أسفر عن مقتل ما يقرب من ربع مليون ضحية. لم يعد التركيز على الأعراض، أي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، كافيًا ومجديًا، وأصبح من الضروري الاستثمار في مجال علم الخلاف والسلم لفهم الأسباب الجذرية للآفة التي كانت ولا تزال تنخر الجزائر والعالم العربي والإسلامي بشكل عام، أيْ غياب الحرية وسوء الحوكمة اللذان يؤديان إلى الكثير من العنف السياسي، ولاستكشاف طرق مواجهتهما.

إنه شبه مستحيل ألا نعترض طريقك عندما نسعى لطلب العلم في مجال الخلاف والسلم، نظرًا إلى مساهماتك الأساسية في نظرية وممارسة ترشيد الخلاف على مدى العقود الستة الماضية، والتي مكّنتك، عن جدارة واستحقاق، من الحصول على لقب الأب المؤسس لمجال دراسات السلام. بعد أن تلقّيتُ تكوينًا في ما يسمّى بالعلوم الدقيقة ومارستُ الفيزياء الطبية، وجدتُ نهجك متعدّد التخصّصات الذي يعكس تكوينك المزدوج في الرياضيات وعلم الاجتماع مفيدًا جدًا بالنسبة لي في فهم أساسيات مجال معرفي جديد أكتشفه. وساعدتني لي نصائحك على التمكّن من الأساسيات بسرعة وتجنّب الغرق في التفاصيل الجانبية.

Room CPIقاعة اجتماعات معهد قرطبة للسلام بجنيفبعد فترة وجيزة، في عام 2002، تأسّس معهد قرطبة للسلام بجنيف (مؤسسة قرطبة بجنيف سابقًا). كان هدفه المساهمة في بناء القدرات في مجال ترشيد الخلاف في العالم العربي والإسلامي من خلال إحياء الموارد الداخلية، الثقافية والدينية، لهذه المجتمعات. وقد تكرّمت بقبول عضوية اللجنة الاستشارية للمعهد، ونحن ممتنّون لك عن ذلك.

لقد سعدنا في عامي 2004 و 2005 باستضافتك في المعهد لتنشيط ندوات حول ترشيد الخلاف بالوسائل السلمية وعرض مقاربة التجاوز (transcend method) التي قمت بتطويرها على مجموعات صغيرة من الأصدقاء المتحمّسين للتعرف على مجال دراسات السلام. لقد كانت النقاشات جدّ ثرية!

03 Tente Dialogueخيمة الحوار، حديقة ترامبلي، جنيف، 3 يوليو 2004كلّما تحدثتَ عن ترشيد الخلاف، قمتَ بالتركيز على ضرورة أن يتمّ بالوسائل السلمية. صحيح أنه بدون الإقناع والتعاطف لا يمكن الحديث عن وساطة حقيقية ولا عن بناء السلم. ولا تؤدي عملية وساطة قائمة على “العضلات” أو “الشيكات” في أفضل الأحوال إلّا إلى تهدئة مؤقّتة.

Mediation Danmarkترتيب طاولة التيسير في أزمة الرسوم الدنماركية، معهد قرطبة للسلام بجنيف، 13 فبراير 2006لقد شاركتَ في “خيمة الحوار”، التي نظمناها في جنيف في يوليو 2004، لتنشيط نقاش حول موضوع “الإرهاب الدولي: التفسير لا يعني التبرير”. كان ذلك بعد مرور سنة على التدخّل الأمريكي في العراق، ولم تفُتكَ حينها فرصة انتقاد السياسة الخارجية الأمريكية بشدة، وانحراف الحرب العالمية على الإرهاب، وعدم فعالية الاستراتيجية الأمنية البحتة، الأمر الذي أدّى إلى توتّر الجوّ داخل الخيمة وجعل بعض المشاركين الذين اعتادوا على الخطاب السياسي المصقول منزعجين.

05 BilaHudud2006المشاركة في برنامج بلا حدود للجزيرة، الدوحة 25 مارس 2006في 13 فبراير 2006، في خضم أزمة الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول (ص) التي نشرتها صحيفة Jyllands-Posten في 30 سبتمبر 2005، نظّم معهدنا وساطة بين وفد حكومي دنماركي ووفد من العالم الإسلامي. وتمّ اختيارك من قِبل الوفد الإسلامي كمستشار. وأصررتَ خلال المحادثات على أهمية ترسيم الحدود بين حرية التعبير والإساءة وبين حرية الصحافة والإهانة، ووضعتَ إصبعك على الأخطاء السياسية لرئيس الوزراء الدنماركي آنذاك في إدارة الأزمة.

Interview CPI Mai 2008مقابلة حول التغيير السياسي من خلال اللاعنف، معهد قرطبة للسلام بجنيف، جنيف، مايو 200810 Interview Sep2008مقابلة حول دراسات السلام، مجلس الكنائس العالمي، جنيف، 19 سبتمبر 2008أتذكّر رحلتك الأولى إلى الدوحة للمشاركة في برنامج الجزيرة الشهير “بلا حدود” في 25 مارس 2006، الذي تابعه عشرات الملايين من المشاهدين في العالم العربي، وهو برنامج قمنا بتحضيره مع الصحفي أحمد منصور. إنّ قوة وصحة تقييمك النظام (أو اللانظام) العالمي لقيت ترحيبًا واسعًا وأثارت الكثير من ردود الفعل والتعليقات من الرأي العربي الذي يصبو إلى العدالة ويتطلّع الحرية.

Jondal 2007 1Jondal 2007 2ورشة عمل تدريبية نظمتها ترانسند في يوندال، النرويج، أغسطس 2007Trondheim 2008اجتماع ترانسند في تروندهايم، النرويج، 2008كانت مشاركتي في 2007-2008 في ورش العمل التي تنظمها في فصل الصيف في مسقط رأسك يوندال وفي تروندهايم بالنرويج تجربة غنية وممتعة. لقد تعلمتُ الكثير عن فلسفة ترانسند وأعمال هذه الشبكة من الرجال والنساء من خلفيات متنوعة الذين كرّسوا حياتهم لتعزيز السلم العالمي.

لقد كنتم تصرّون على أهمية الاستقلالية لتجنّب بيروقراطية السلام. ويمكن للمرء بالفعل قياس الضرر الذي يلحقه بيروقراطيو بناء السلام وبيروقراطيو العمل الإنساني وبيروقراطيو حقوق الإنسان بتعزيز الأمن البشري.

PeaceJournalism11 PJ Doha2010ورشة عمل حول صحافة السلام، الدوحة، 2 أكتوبر 2010AJ Oct 2010المشاركة في برنامج ‘ما وراء الخبر’ للجزيرة، الدوحة، 6 أكتوبر 2010Award 2010الجائزة الممنوحة من معهد قرطبة للسلام بجنيف ليوهان غالتونغ في 2 أكتوبر 2010 لمساهمته القيّمة في دراسات السلامفي عام 2008، تفضّلتَ بقبول مقابلات فيديو حول تطور دراسات السلم والتغيير السياسي من خلال نهج اللاعنف. كانت سلسلة المقابلات ناجحة للغاية في العالم العربي ولا تزال متوّفرة على موقع يوتيوب.

14 MAS Basel201ماجستير في الدراسات المعمّقة في “السلم وترشيد الخلاف”، أكاديمية السلام العالمي، بازل، 13 أكتوبر 2010سافرنا معًا إلى الدوحة في أكتوبر 2010، عندما شارك معهد قرطبة للسلام بجنيف في تنظيم ورشة عمل حول صحافة السلام مع قناة الجزيرة. وانتهزنا هذه الفرصة لإطلاق النسخة العربية من كتابكَ الذي ألّفتَه بشراكة مع جيك لينش، ” التغطية الإعلامية للنزاعات: التوجهات الجديدة لإعلام السلام”، وقام بترجمته من الإنجليزية ونشره ترجمته المعهد بالشراكة مع دار نشر جامعة ترانسند. لقد كانت زيارة مكثفة، وكنتَ مطلوبًا للغاية.

Q4PMuslimDiasporaأرادت وسائل الإعلام سماع تعليقاتكم حول عرقلة المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية بسبب بناء مستوطنات جديدة في الضفة الغربية وحول نهج الوساطة الأمريكية من قِبل الثنائي أوباما-كلينتون ومبعوثهما الخاص جورج ميتشل ودور “اللجنة الرباعية حول الشرق الأوسط”. لقد كان موضوع الساعة وفرصةً لكَ للتذكير بفكرتكَ عن “المجموعة الشرق أوسطية” التي تضمّ فلسطين وإسرائيل وسوريا ولبنان والأردن ومصر، كفضاء تعاون على غرار المجموعة الأوروبية سلف الاتحاد الأوروبي.

جرى الاحتفال بعيد ميلادك بهذه المناسبة، وكهدية تمّ إفراغ في بضع دقائق حقيبة كتب ترانسند التي أحضرتَها معك.

في عام 2010، أطلقتَ في مدينة بازل مشروعًا ممتازًا لشهادة ماجستير في الدراسات المعمّقة في “السلم وترشيد الخلاف” مع بعض الأصدقاء من بينهم ديتريش فيشر، العزيز ديتر الذي توفي قبل خمس سنوات (18 أكتوبر 2015). كان من دواعي سرور معهد قرطبة للسلام بجنيف المساهمة ثلاث سنوات متتالية في برنامج هذا الماجستير، التي نظمته أكاديمية السلام العالمية بالشراكة مع جامعة بازل، من خلال تدريس وحدة مدّتها أسبوع واحد حول التجربة مع الخلاف في العالم العربي والإسلامي.

كما حظي معهد قرطبة للسلام بجنيف بامتياز النشر المشترك مع ترانسند لبعض إصداراتك مثل “من منظمة المؤتمر الإسلامي إلى منظمة المجموعة الإسلامية، مرورًا بمنظمة التعاون الإسلامي” (2011) أو “شتات المسلمين في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية” (2012)، بالإضافة إلى “السعي نحو السلام في الإسلام” (2013) الذي تفضلتَ بالتصدير له وتضمينه في سلسلتك من كتب ترانسند، جنبًا إلى جنب مع مساهماتك المرجعية، مثل “نظرية الخلاف”، و”نظرية السلام”، و”نظرية التنمية”، و”نظرية الحضارة”.

إني أحتفظ بذكريات جميلة عن اجتماعاتنا في منزلك في بوا-شاتون والمحادثات الشيّقة مع حرمك فومي ومجموعة الأصدقاء الذين كانوا يشاركون أحيانًا خصوصية منزلك ويستفيدون من تحليلاتك المتعمقة حول مختلف مواضيع السياسة الدولية.

لقد أجرينا نقاشات رائعة حول مواضيع متنوّعة مثل رياضيات السلام، وصحافة السلام، وفن السلام، ونظرية “التضارب الطبقي”، أو قدرة الروح على استخراج الإنسان من تكييفه الثلاثي الناجم عن “الطبيعة” و “البنية” و “الثقافة”.

Houseإقامة يوهان جالتونج في بوا-شاتون، فرنساشكرًا يوهان على كل شيء!

Galtung Parcافتتاح “حديقة يوهان غالتونغ” في مدينة ألفاز الإسبانية
(Siri Lund, spaniaavisen.no, 15 juin 2013)
أخبرني أحد الأصدقاء ذات مرة أنّ الرجال والنساء الذين يحبّون الحقيقة والعدالة يبقون شبابًا طوال حياتهم. إن ديناميكيتك والتزامك المستمر بالقضايا العادلة، لا سيما السلام، تأكيد حي لهذه المقولة.

أتمنى لك عيد ميلاد سعيد، وحياة مديدة ملؤها السعادة، محاطًا بفومي وبجميع أفراد أسرتك وأحبائك.

استمتع بالحياة الهادئة في ألفاس ديل پي عند سفح السييرا جيلادا وعلى بعد بضع كيلومترات من شواطئ الكوستا بلانكا على حافة البحر الأبيض المتوسط اللطيف، حيث رغبتَ في الاستقرار وحيث أعطت البلدية اسمك إلى حديقة لتكريمك، تقديرًا لالتزامك الراسخ بالسلام. إنّك حقًا تستحقّ ذلك.

في انتظار لقائكَ قريبًا.

مع فائق التقدير والمودّة،

عباس عروة
جنيف، 24 أكتوبر 2020

Share this post