الحركة الاحتجاجية في الجزائر

Alger 8mars2019

الحركة الاحتجاجية في الجزائر

حوار مع الأخضر غطاس حول الحركة الاحتجاجية في الجزائر

اجري الحوار بتاريخ 14 مارس 2019

كيف تصف ما يجري حالياً في الجزائر؟ هل نشهد أمراً مشابهاً لما حدث في البلدان العربية الأخرى في 2011؟

إنّ الحركة الاحتجاجية التي تقض أركان النظام الجزائري لما يقارب الشهر لحد الآن لهي مجهود ثوري متنامي الصعود. قد توصف بأنّها صحوة جزائرية وانتفاضة سلمية لاستعادة الفضاء العام؛ أو ثورة تحت طور النشأة. إنّها تشبه انتفاضة 2011 في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من جانب اعتمادها على استخدام منصات التواصل الاجتماعي وخاصة فيسبوك من جهة، وكونها تنتهج استراتيجية اللاعنف للوصول إلى التغيير السياسي من جهة أخرى. ورغم ذلك فإنها تختلف عن الربيع العربي في مصدر الإلهام. إنّ مشهد عدد كبير من المتظاهرين وهم حاملون للراية الوطنية وعددا آخر من رموز كفاح الجزائر المسلّح من أجل الاستقلال (1954-1962) ضد الاستعمار الفرنسي، يذكّرنا هذا المشهد بمظاهرات ديسمبر 1960 التي تدفّق أيامها المواطنون الجزائريون إلى شوارع الجزائر العاصمة بالرايات الجزائرية من أجل نصرة قضية استقلال الجزائر.

لماذا الآن بالذات؟ ماهي الأسباب التي من أجلها تظاهر الجزائريون ضدّ العهدة الخامسة؟ لماذا لم يلجؤوا للتظاهر من قبل؟

لقد عارض أغلب الجزائريين انتهاك الدستور الذي مهّد الطريق للعهدة الثالثة والرابعة بعد ذلك. وشكّلت العهدة الرابعة عام 2014 إهانة صارخة لتاريخ البلاد وشعبها؛ إلاّ أن الإتجار بدعاية الحرب الأهلية وكذا الحملات العريضة الموجّهة للضغط النفسي والتي لجأ إليها النظام آنئذٍ في فترة كانت التحوّلات السياسية في الجوار الليبي وسورية تتخذ منحىً دمويا وتدميرياً، أدّى ذلك بالجزائريين إلى اللوذ بالسكون وتجرّع كبريائهم. لقد كان لغياب الرئيس عبد بوتفليقة التام عن الساحة خلال عهدته الرابعة، وهبوط 50٪ في أسعار النفط، إضافة إلى استشراء الفساد في الطبقة الثرية الجديدة من الأوليغارشية الصاعدة على الطريقة الروسية وكذا التهاب الصراعات الطائفية العرقية، في ظل نظام يتقادم في الشيخوخة وصار منقطعا عن تطلعات الشباب، كان كل ذلك كفيلا بنفاد ما تبقى من صبر لدى الجزائريين. ساهمت كل من فضيحة تهريب 700 كيلوغرام من الكوكايين، والتي اعقبها إقالة أغلب كبار القادة في القوات المسلحة والأجهزة الأمنية خلال مدة ثلاثة أشهر في خلق انطباع بأنّ نظام بوتفليقة قد أصبح خطراً أمنيا على بقاء سيادة الجزائر ووحدتها. جاءت قضية العهدة الخامسة حاملة إهانة لأغلب الجزائريين الذي طفح بهم الكيل، وخاصة بعد شتيمة التصريح الذي أدلى به الوزير الأول سابقا أحمد أويحيى، والذي أتقن مهّمة إصدار التصريحات التي تصغر من شأن الجزائريين وتزدري بهم لرفضهم للعهدة الخامسة. كانت إحدى أهم اللافتات التي انتشرت بقوة بعد مظاهرات 22 فبراير العارمة تحمل شعارا مفاده: سكت الشعب عشرين سنة لأنه كان يخشى ضياع الجزائر. فلما تأكد أن الجزائر ستضيع بسكوته خرج ولن يسكت بعد اليوم؛ تلخص العبارة القضية برمتها.

هل تعتقد أنّ ما يحدث في الجزائر اليوم يمكن أن يكون وراء إثارته جهة ما من داخل النظام التي يريد بوتفليقة خارج المنظومة لتستفرد هي بالحكم؟

لا، لقد كان قرار النظام بالمُضي نحو عهدة خامسة هو السبب، وذلك إما لقراءة مختلة لنبض الشارع ومزاج الجزائريين، أو الإيمان الواثق للنظام بالتخويف ببعبع الربيع العربي أو كلاهما. عبر النظام الخط الأحمر في المنعطف الذي أعلن فيه العهدة الخامسة على الرغم من تحذيرات الشركاء بما فيهم ممن هم داخل النظام. هنالك نقاش مستمر حول عوامل اندلاع انتفاضة أكتوبر 1988 التي كسب الجزائريون على إثرها دستور 1989 الذي كرّس تعددية الأحزاب السياسية وحرية التعبير حتى قبل سقوط جدار برلين. وعلى الرغم من ذلك يجمع الملاحظون هذه المرة بأنّ الاحتقان الشعبي الناشئ من إهانة العهدة الخامسة هو الفتيل الذي أشعل الاحتجاجات، وزاد في تفاقم الغضب تصريح بوتفليقة في رسالته يوم 11 مارس بأنّه “لم يكن ينوي الترشح قط” للرئاسيات. من جمعة إلى جمعة أخرى ارتفعت مطالب المتظاهرين إلى سقف أعلى؛ من رفض للعهدة الخامسة والمطالبة بحكم راشد والخضوع لسيادة القانون، تطورت الشعارات إلى مطالب ثورية تنادي بتغيير النظام كلية. كل من له علاقة بالنظام سواءً أكان داخل النظام أو خارجه أصبح معنيا بأمر نجاح هذه الحركة اللاعنفية الراديكالية.

ماذا عن الجيش؟ لا يزال لحد الآن يدعم النظام، هل تعتقد أنّه سيُغيّر موقفه؟ وماذا يمكن أن يكون دوره في الحركة الاحتجاجية؟

كما سبق وأن أشرت إليه، لقد تم تغيير كبار القادة في الجيش والأجهزة الأمنية عقب تداعيات فضيحة الكوكايين خلال الصيف الفارط. ونظرا لخاصية العتمة التي يتميز به النظام الجزائري حاله كحال الكرملين، طفى على الساحة إذ ذاك عدد من الفرضيات. كانت إحدى تلك الفرضيات ترجّح أن الإزاحات في قيادة الجيش لم تكن إلاّ ذريعة للتخلّص من الجنرالات الذين حذّروا من أو عارضوا نية النظام طرحه عهدة خامسة، وأنّ فضيحة الكوكايين لم تكن إلا سياقاً قد يكون أو لا يكون متصلاً بتلك السلسلة من الإقالات؛ ومنذئذ صار قائد الأركان أحمد قايد صالح يملأ الدنيا بحضوره المستمر، حيث تفتتح أخبار الثامنة في التلفزيون الحكومي الجزائري نشرتها بالتغطية المستفيضة لنشاطاته اليومية، وتحذو حذوها الصحف الحكومية وكذلك الصحف الخاصة التي تعتمد في بقائها على الإشهار الحكومي.

إتخذت خطابات الجيش لهجة أكثر حدة بعد أن أعلن جنرال متقاعد عن نيته الترشح للانتخابات الرئاسية وانطلاق مظاهرات عفوية في مدينتين أو ثلاثة مدن بُعيد الإعلان الرسمي لترشح بوتفليقة في العاشر من شهر فبراير. أخذ الجزائريون أسبوعاً كاملا لامتصاص الصدمة قبل أن يتمّ تمزيق وحرق صورة كبيرة لبوتفليقة كانت معلقة في بناية بلدية خنشلة، انتفضت إثرها عنابة (مدينة قائد الأركان) في اليوم الموالي، ممهّدة الطريق للمظاهرة الضخمة يوم الجمعة 22 من فبراير.

حينها فقط بدأ الجيش يعيد مراجعة خطابه في محاولة للتموضع في موقف الضامن للاستقرار والأمن الوطنيين، بدلا عن حماية استمرارية النظام.

لقد قرر الجيش الآن وقف العهدة الخامسة ووأدها نهائيا مسدلاً بذلك الستار على عهد بوتفليقة. كما جلب إثنين من أشهر ديبلوماسي الجزائر على المستوى الدولي لتسهيل ما يشبه فترة انتقالية تبدو أنها بمعايير الجيش. هناك مخاطر من أن يواجه دور الجيش معارضة ويصبح مثيرا للانقسام إذا ما فرض رؤيته للجمهورية الثانية في الجزائر غير آبه بتطلعات ومطالب الحركة الاحتجاجية.

ما رأيك في اقتراح بوتفليقة الاحتفاظ بالحكم لعام إضافي ثم تنظيم انتخابات جديدة؟ ما معنى ذلك؟ هل تستنتج من ذلك أن مسألة الإستخلاف داخليا غير مرتبة بعد وأنّهم في حاجة إلى عام إضافي لترتيب ذلك؟

إنّ التنازل الذي قدمه النظام يوم 11 مارس متمثلا بتأجيل الانتخابات إلى أجل غير مسمى، مع التعهد بتعديلات وزارية وإقامة ندوة وطنية للحوار بإدارة لخضر براهيمي، كلها قرارات تلاقي صعوبة في إقناع معظم المتظاهرين. لقد شن كل من الابراهيمي ورمطان لعمامرة حملة علاقات عامة لكسب ثقة الشارع الجزائري، إلاّ أنّ كل المؤشرات توحي بالاعتقاد بأن الشباب قد انتقلوا إلى مرحلة أخرى وأنّ قضية تغيير النظام تطرح نفسها تدريجيا كمطلب رئيس للحركة الاحتجاجية. وعلى الرغم من قضاء الابراهيمي مساء الخميس 14 مارس / آذار في عدد من استوديوهات المحطات التلفزيونية لشرح مدى صدق بوتفليقة في تسليم الحكم بطريقة سلسلة ومتدرجة، تظهر تعليقات الشباب حجم ضآلة ثقتهم في وعود النظام وخاصة في غياب أية ضمانات.

ساهم الإعلان المتسارع من الرئيس الفرنسي على تويتر بدعمه لخطوة التنازل التي اعلنها النظام الجزائري وذلك حتى قبل أن تكون للجزائريين فرصة لاستيعاب تفاصيل تنازلات النظام – ساهم في تعزيز شكوك المتظاهرين؛ وستكون مظاهرات جمعة 15 مارس أكبر بكثير من المظاهرات التاريخية جمعة 8 مارس التي قدّرت الشرطة أعداد المشاركين فيها بـ 15 مليون جزائري.

لقد وجد النظام الجزائري نفسه في مأزق بسبب غلقه ولمدى عقدين من الزمن لجميع الفضاءات العامة أمام الأحزاب السياسية والمجتمع المدني، مغلقا بذلك جميع القوى التمثيلية الموثوقة وقنوات الاتصال بين الدولة والمجتمع.

يواجه النظام الآن نفسه حركة غير مسبوقة من الراديكالية مستعصية على احتوائها من طرف أحزاب الواجهة والمجتمع المدني وبرلمان البصم والتصديق، فما بالك بمحاولة التحدث باسمها.

التحدي الآخر هو أنّ الحركة الاحتجاجية إلى حد الآن أفقية الامتداد، لا مركزية شعبية لا تملك قيادة واضحة. لم يظهر لها أي قائد أو مجموعة قيادية بعد لكن ذلك لا يعني عدم وجودها. وبالمقابل هناك مبادرات لتأسيس هيكلة وبرنامج سياسي للحركة الاحتجاجية.

بيد أنّ سنوات القمع وغلق المجال العام وحظر ممارسة المواطنة من شأنها أن تصعب من مهمّة النظام في إيجاد من يتفاوض معه. لقد شهدت الأسابيع الثلاثة من الاحتجاجات إعادة بعث لممارسات المواطنة ونشاطات المجتمع المدني في أشكال متعددة لحرية التعبير، من الشعارات والرسومات الجدارية إلى النقاشات المفتوحة في الفضاءات الجامعية، إذاعات تبث على الإنترنت وتجدد الاهتمام بالسياسة والقضايا العامة. لقد بدأ المجتمع في رأب تشققاته لكنه يحتاج إلى المزيد من الوقت كما أثبتت ذلك تجارب ما بعد الحكم المتسلّط في دول أمريكا اللاتينية وإسبانيا. قد لا ترضي ندوة الحوار الوطني تطلعّات المحتجّين وقد يجد الجيش نفسه مضطرا لإعلان حالة الطوارئ.

من هي المعارضة في الجزائر؟ هل المعارضة منظمة بما فيه الكفاية؟ هل تعتقد أنهم مستعدون للحكم والوفاء باحتياجات الشعب ومطالبه؟

كما أوضحنا سابقًا، فإن عقودًا من الحكم الاستبدادي التي أخفتها الديمقراطية الشكلية لم تفسد في النهاية، ليس فقط المعارضة بل النظام نفسه. يقرر النظام الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني التي ستُمنح ترخيصًا قانونيًا لتأسيسها أو الصحف التي ستتم طباعتها. كما يقوم بتصفية وحضر قوائم المرشحين للانتخابات المحلية والعامة وتزوير النتائج. كما يتعين على الأحزاب السياسية والمنظمات غير الحكومية الحصول على إذن لاستغلال قاعة اجتماعات أو النشر. لقد توقف معظم الجزائريين عن المشاركة في الانتخابات منذ وقت طويل.

وتعكس المعارضة الشكلية في البرلمان التوزيع الذي يفرضه النظام على المجتمع من حيث الأيديولوجية والحجم. لديك قوميون وإسلاميون ويساريون وليبراليون لكنهم متحدون جميعًا بقبول حكم اللعبة المزورة التي يفرضها النظام. من ناحية أخرى، لديك مجموعة متنوعة من أحزاب المعارضة ومبادرات المجتمع المدني الموجودة في المجتمع والتي لا تحصل على ترخيص قانوني من النظام. هذه الأطراف لها وجهات نظر مختلفة ولكنها متحدة في نضالها من أجل تحقيق الديمقراطية الحقيقية في الجزائر. خلال فترة ولاية بوتفليقة الرابعة، انضمت بعض الأحزاب السياسية في البرلمان إلى جهود القوى السياسية غير المعترف بها من أجل العمل معًا من أجل التغيير السلمي للنظام، لكن هذه الجهود لم تحقق سوى القليل بسبب احتكار النظام للمجال العام. لقد شجعت حركة الاحتجاج الآن على التقارب بين الأحزاب السياسية ذات المرجعيات الفكرية المختلفة والتي اقتنعت بالحاجة إلى تغيير جذري يبدأ بتشكيل مجلس رئاسي وحكومة تصريف أعمال وانتخاب جمعية تأسيسية جديدة لصياغة دستور جديد للبلاد. إذا تمكنوا من كسب ثقة حركة الاحتجاج والانضمام إلى جهودها، فيمكن التفاوض على فترة انتقالية مع النظام.

كيف تفسرون التعليقات “الباردة” أو سياسة “عدم التعليق” من فرنسا والدول الغربية؟

لقد حظيت سياسة عدم التعليق أو التعليقات الباردة في الدول الغربية بالترحيب من جانب النظام والجزائريين لأسباب مختلفة. جميع الجزائريين يعتزون باستقلالهم ويعتبرون هذه القضية مسألة داخلية. لقد رأينا شعارات بهذا المعنى في أعقاب تعليقات فرنسا والاتحاد الأوروبي والبيت الأبيض. لكنه أيضًا أحد الدروس المستفادة من ثورات 2011 لمقاومة أي إغراء باللجوء إلى الدعم الأجنبي ضد النظام الاستبدادي. أما عن سبب تعامل الغرب مع القضية الجزائرية بشكل مختلف عن أزمة فنزويلا، على سبيل المثال، فقد يفسر ذلك إلى حقيقة أن الجزائر أقرب إلى أوروبا وأن تداعيات عدم الاستقرار في الجزائر ستكون فورية ومضرة بمصالح التصدير الاقتصادية لأوروبا، وأمن الطاقة، واستقرار شمال أفريقيا.

Share this post