نشاط معهد قرطبة للسلام في العراق

نشاط معهد قرطبة للسلام في العراق

بعد سنوات من الخلاف العنيف، دخل العراق في مرحلة إعادة الإعمار والمصالحة. وبعد هزيمة “تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش) وتحرير الأراضي، من الضروري معالجة العديد من الجروح لتحقيق سلام دائم، فقد ساهم العنف وحجم الصراع في انقسام المجتمع العراقي وانعدام الثقة بين مكوّناته.

بقلم كيليان بيلو و شارلوت مونيي

عراق ما بعد الصراع

بعد سنوات من الخلاف العنيف، دخل العراق في مرحلة إعادة الإعمار والمصالحة. وبعد هزيمة “تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش) وتحرير الأراضي، من الضروري معالجة العديد من الجروح لتحقيق سلام دائم، فقد ساهم العنف وحجم الصراع في انقسام المجتمع العراقي وانعدام الثقة بين مكوّناته.

وفقًا للأرقام الصادرة عن المنظمة الدولية للهجرة في يوليو 2021، لا يزال ما يقارب 1.2 مليون عراقي نازحين داخليًا (1)، بينما تقدّر المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين عدد اللاجئين العراقيين في الدول المجاورة بحوالي 250 ألفًا (2). ويواجه النازحون واللاجئون العديد من العقبات التي تعقّد عودتهم، فثمّة العوائق الإدارية، وتدمير المنازل، ونقص الخدمات العامة. وهناك أيضًا الخوف من الانتقام عند العودة، فغالبًا ما يتم اعتبار مَن قرّروا المغادرة من قِبل مجتمعاتهم الأصلية بأنهم ذوو صلة بداعش، وبالتالي فقد فرّوا خوفًا من مواجهة العدالة. توجد إذن فجوة كبيرة بين العراقيين الذين اختاروا البقاء وأولئك الذين غادروا ويرغبون اليوم في العودة إلى مدنهم أو قراهم الأصلية، ومناخ من عدم الثقة المتبادلة ممّا يتسبّب أحيانًا في أعمال عنف (3). فمن جهة، تخشى المجموعات المضيفة أن تؤدي عودة النازحين أيضًا إلى عودة عناصر من داعش ممّا يؤدّي إلى استئناف العنف؛ ومن جهة أخرى، يخشى النازحون العودة خوفًا من الانتقام. ويحول هذا الوضع دون عودة أولئك الذين فرّوا من القتال إلى ديارهم ويمنع أيّ حلّ دائم على المدى الطويل لمن يرغب الآن في العودة. وتُعتبر منطقة تلعفر مثالًا معبّرًا للغاية، ففي الواقع، وفقًا لتقرير المنظمة الدولية للهجرة، لا يجرؤ 81٪ من الراغبين في العودة إلى هذه المنطقة على القيام بذلك إلى أن تتمّ عملية مصالحة (4).

بالإضافة إلى العدد الكبير من النازحين واللاجئين، أدّت الحرب أيضًا إلى اختفاء عدد معتبر من الأشخاص. وجزءٌ من هذا الاختفاء القسري هو من عمل الجماعات المسلحة مثل داعش التي اختطفت ونفّذت عمليات قتل جماعي في المناطق التي كانت تحت سيطرتها آنذاك. إلّا أنّ حالات الاختفاء لا تُنسب فقط إلى داعش، بل إلى مجموعات مسلّحة أخرى. ففي مواجهة داعش أُنشئت مجموعات موحّدة تحت “قوات الحشد الشعبي”. وبالرغم من أن الهدف الأساسي لهذه المجموعات كان محاربة داعش، إلا أنها استمرّت في العمل بعد انتهاء الحرب، وأدّت القوة الكبيرة التي اكتسبتها إلى درجة من انعدام الثقة لدى السكان، بسبب الجرائم الذي تُتّهم بعض الفصائل بارتكابها، مثل الاختفاء القسري. وبالفعل، فإنّ تقريرًا مشتركًا بين بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (UNAMI) ومكتب مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان (OHCHR) يندّد بوجود حالات اختفاء قسري لرجال وفتية من طرف فصائل من قوات الحشد الشعبي في المناطق التي كانت تحت سيطرتها خلال الحرب (5).

برنامج معهد قرطبة للسلام في العراق

في مواجهة مناخ عدم الثقة، أطلق معهد قرطبة للسلام بجنيف برنامجًا يهدف إلى المساهمة في بناء الثقة وتشجيع الحوار بين مختلف الفاعلين العراقيين، باستخدام منهجية الممارسة المشتركة، أي الحوار المعزّز بمبادرات عملية مشتركة بين الأطراف. فإتاحة الفرصة لهذه الأطراف للاجتماع في فضاء محميّ تنظمه جهة محايدة، تساعد على بناء الثقة بين الأطراف وتحويل أقوالهم إلى أفعال ملموسة.

يتكوّن هذا البرنامج من مشروعين:

يهدف المشروع الأول إلى إطلاق تبادل بين اللاجئين والسكان المحليين يمكّن من استعادة الثقة بين المجموعتين، وتطوير آلية عودة طوعية ومستديمة. وتقرّر أن يتمّ ذلك من خلال تنظيم ورش عمل تجمع بين الفاعلين المؤثرين الذين يمثلّون جميع الأطراف المعنية. كما تقرّر التركيز على عودة سكان تلعفر السابقين الذين أصبحوا لاجئين في تركيا، خاصة في مدينة أنقرة وضواحيها.

ويهدف المشروع الثاني إلى إرساء إجماع بين ممثّلي الأديان حول أهمية معالجة قضية المفقودين بسبب الصراع وضرورة تقاسم المعلومات التي يمكن أن تساعد في معرفة مصيرهم أو مكانهم الحالي. وذلك بجمع الفاعلين ذوي التأثير في المجتمع العراقي، من زعماء دينيين وأعيان عشائر و وشخصيات مؤثرة أخرى، ليتمكّنوا من مناقشة القضية وإطلاق مبادرة مشتركة تساعد على حلّها. ويمكّن التعامل مع هذه الجهات المؤثرة من نشر نتائج النقاشات على شرائح واسعة في المجتمع، وتسهيل قبول الاتفاقات بين فئات عريضة من السكان.

يسعى إذن البرنامج الذي يديره المعهد في العراق إلى معالجة قضيّتين لا يمكن أن تحلهما نهاية الحرب وحدها. فمن الضروري أن تتوفّر للجهات الفاعلة المختلفة فرصة الاجتماع لتبادل وجهات النظر، وفهم بعضهم البعض، وتطوير خطاباتهم.

نقاشات ثرية

بعد مرحلة تحضيرية من الاجتماعات الثنائية بين طاقم المعهد ومختلف الخبراء والشخصيات الدينية وزعماء العشائر، عُقدت ورشة عمل أولى في 25 و 26 مارس 2021 في أربيل لمعالجة قضية المفقودين، جمعت 15 مشاركًا من زعماء عشائر، وخبراء في القانون الإنساني الدولي، وأعضاء في الأجهزة الأمنية العراقية، وشخصيات دينية. كما تمّ أيضًا بعد بضعة أشهر تنظيم ورشة عمل ثانية تتعلق بنفس الموضوع، في 12 و 13 أغسطس 2021، مرة أخرى في أربيل. وجمعت ورشة العمل هذه المرة 17 مشاركًا، معظمهم من القادة الدينيين من معتقدات مختلفة وخبراء في القانون الدولي الإنساني. أتاح هذان الاجتماعان الفرصة محادثات محفزة ومقترحات مفيدة لمعالجة قضية الاختفاء القسري.

أشاد جميع المشاركين بمشروع المعهد، وسلّطوا الضوء، باستخدام الأرقام أو الأمثلة الشخصية، على ما خلفته حالات الاختفاء القسري في المجتمع العراقي. وأعربوا عن اعتقادهم بأنّ اكتشاف ما حدث للمفقودين جزء أساسي من عملية المصالحة وبناء السلم في العراق. كما عبّر العديد منهم عن إحباطهم وعدم رضاهم عن كون القضية لم تُأخذ على محمل الجد من طرف الحكومة العراقية، فلم يتمّ إلى الآن التحقيق في العديد من المقابر الجماعية من قِبل السلطات العراقية، ولم يتمّ إلى الآن تحديد الإطار القانوني المتعلّق بحالات الاختفاء بوضوح. وأكّد المشاركون على أهمية الدور المنوط بالحكومة في هذه القضية وأنّ من واجبهم وضع الحكومة تحت الضغط لتأخذ الأمور بمحمل الجدّ. وعلى نفس المنوال، وُجّهت نداءات عديدة إلى القيادات الدينية لمطالبتها باستخدام نفوذها لرفع مستوى الوعي العام حول هذا الموضوع وترقية تدابير أكثر نجاعة من جانب الحكومة.

وبفضل هذه النقاشات، تمكّن الزعماء الدينيون الذين يمثلون الأديان المختلفة الموجودة في العراق من إثارة موضوع المفقودين والاتفاق على ضرورة التحدّث عن هذا الموضوع حتى يتمّ توفير المزيد من الموارد له. ونظرًا للتأثير الكبير للزعماء الدينيين في العراق، من المرجّح أن يكون لضغطهم المتزايد على السلطات المعنية بشأن هذه القضية تأثير إيجابي على الاهتمام الذي تتلقّاه. كما مكّنت الاجتماعات من إطلاق مشروع عملي لتشكيل لجنة مؤلفة من قادة دينيين وخبراء في القانون الدولي الإنساني وممثلين عن الدولة، تكون مسؤولة عن جمع المعلومات المتعلقة بالأشخاص المفقودين وتعزيز تبادل المعلومات حول مصيرهم. وبذلك لم تؤدّ ورش العمل هذه إلى الأقوال فقط، بل إلى أعمال مشتركة ملموسة بين مختلف الفاعلين المجتمعين.

فيما يتعلق بالمحور الثاني للبرنامج، تم تنظيم ورشة عمل أولى في 5 و 6 يونيو 2021 في أنقرة، جمعت ثلاث مجموعات من المشاركين: ممثلين عن اللاجئين التلعفريين المقيمين في تركيا، وممثلين عن سكان تلعفر، وممثلين عن الحكومة العراقية. كان هذا الاجتماع الأول فرصة لكل مجموعة لاكتشاف ومقارنة رؤيتها للأشياء برؤية الآخرين. وتمكّن بذلك ممثلو اللاجئين من شرح أسباب إحجامهم عن العودة، بما في ذلك الخوف من أن يُنظر إليهم باقي المجتمع على أنهم ينتمون إلى داعش، وبالتالي من المحتمل أن يكونوا عرضة لمحاولات الانتقام. وتمكّنت المجموعة الثانية الممثّلة لسكان تلعفر أيضًا من التعبير عن مخاوفها بشأن احتمال أن يكون بعض مؤيدي داعش السابقين من بين العائدين إلى تلعفر. ولمعالجة انعدام الثقة، أكّد المشاركون على ضرورة التمسّك بهوية تلعفر والخطر الذي تمثّله السياسات الطائفية التي ينادي بها بعض الساسة العراقيين.

حقّق المشروع المتعلّق بعودة اللاجئين نجاحًا معتبرًا. وكما أوضحنا، فإن انعدام الثقة بين اللاجئين وبين مَن لم يغادروا العراق مرتفع للغاية، وعلى الرغم من هذه التوترات، سرعان ما تمّ توفير مناخ من الثقة بين المشاركين من المجموعات المختلفة، حيث تمكّنوا من التحدّث عن المخاوف المتعلقة بالآخر بأريحية. وفي هذا السياق أيضًا، أُطلِقت مبادرة عملية واعدة، ووُضعت آلية عودة للأسر الراغبة في العودة إلى تلعفر بفضل التعاون وروح المبادرة التي أظهرها المشاركون في ورش العمل. وتمّ بالفعل اختبار هذه الآلية وتمكّنت 25 عائلة لاجئة في تركيا من العودة إلى تلعفر في أغسطس 2021 if link external grey Video ]. كان هذا ممكنًا بفضل المشاركة الفاعلة للسلطات العراقية، وبفضل عملية بناء الثقة التي هيّأت العائلات للانخراط في عملية العودة الطوعية.

تقدّم مشجّع

لقيَت المبادرة التي أطلقها المعهد ترحيبًا كبيرًا من قِبل المشاركين، وساهمت ورش العمل الأولى في بدء عملية بناء الثقة بين الأطراف المختلفة وتعزيز الروابط بينهم. فتوفير فضاء للنقاش من طرف جهة محايدة وذات مصداقية، أين يتمكّن الجميع من الحديث بحرّية عن مخاوفهم وعرض وجهات نظرهم بهدوء، سهّل بلا شك تبادل المعلومات، فكان كلّ طرف قادرًا على التعبير بوضوح عن مخاوفه ورغباته وتساؤلاته والاستماع إلى الطرف الآخر. ومكنت هذه النقاشات من إحراز تقدّم كبير وواعد في كل مشروع من المشاريع المعنيّة بالبرنامج.

إنّ هذا النوع من العمل المشترك بين مختلف الأطراف هو بالضبط الهدف الذي تسعى إليه مشاريع المعهد التي تستخدم منهجية الممارسة المشتركة. وبالتالي، وهذه الانطلاقة المشجّعة للمشاريع تدعو إلى التفاؤل بشأن مستقبل البرنامج.

كيليان بيلو و شارلوت مونيي


الإحالات

(1) https://dtm.iom.int/iraq
(2) https://www.unrefugees.org/emergencies/iraq
(3) Managing Return in Anbar: Community Responses to the Return of IDPs with Perceived Affiliation, IOM, 2020.
(4) Home Again? Categorising Obstacles to Returnee Reintegration in Iraq, IOM, 2021.
(5) Enforced disappearances from Anbar governorate 2015-2016: Accountability for victims and the right to truth, UNAMI and OHCHR, 2020.

Share this post