The Cordoba Update, January – February 2018 (AR)

The Cordoba Update, January – February 2018 (AR)

alt_text

يناير – فبراير 2018

قرّاءنا الأعزاء،

نشطت مؤسسة قرطبة بجنيف على مدى خمسة عشر عاما في سياقات أوروبا والعالم العربي والإسلامي، وطوّرت شبكة معتبرة من العلاقات المؤثرة في أوساط المجموعات الدينية والمجتمعات المدنية. ونظرًا للثقة التي تتمتّع بها المؤسسة لدى هؤلاء الشركاء، يمكن لها أن تكون بمثابة المجسّر والميسّر، وأن تنخرط مع الجهات المهمّشة والمستبعَدة من عمليات السلام، أو التي تواجه أحيانًا صعوبة في التفاعل مباشرة مع الحكومات بسبب وجهات نظرها المختلفة. ولم يكن هذا الوصول المتميّز ليتحقّق لولا حساسية مؤسسة قرطبة بجنيف الثقافية القوية، وقيمها الأساسية كاللاعنف والإشراك الجامع والحياد والتعاطف والاستقلالية. بالإضافة إلى ذلك، فإن منهجية المؤسسة تجمع الأطراف، التي عادة لا تتفاعل، في إطار “فضاءات وساطة آمنة”، للعمل معًا على إطلاق مشاريع مشتركة، من أجل بناء الثقة وتبديد الشكوك المتبادلة، باستخدام مفهوم “الحوار من خلال الممارسة”.

منذ عام 2010، تركّز البرامج الرئيسية لمؤسسة قرطبة بجنيف على تأثير الاستقطاب الأيديولوجي في شمال أفريقيا، والانقسامات الطائفية في الشرق الأوسط، ومجموعة من التوترات العرقية والدينية في منطقة الساحل وجنوب الصحراء، وكذا الوقاية من العنف والتطرّف في هذه المناطق الثلاثة.

في هذا العدد من نشرتنا ستطّلعون على مساهمتين، الأولى نُشرت لأول مرة في مجلة كلفن بجنيف بقلم أليستير دافيسون يتعرّض فيها لتاريخ المؤسسة وهويتها وقيمها الفريدة، والثانية من إعداد عباس عروة تقدّم موجزًا لورقة نُشرت له مؤخّرًا بعنوان “معالجة التطرّف والعنف: أهمية المصطلحات”، تدعو إلى فهمٍ دقيق لمصطلح التطرّف العنيف وكيف يساعد ذلك على إدراك ومعالجة العمليات التي تؤدي إلى التطرّف.

alt_text

أخبار المؤسسة


الفعاليات السابقة

زنجبارتدريب لمجموعة من العلماء ومجموعة من الصحافيين في مجال تحليل وترشيد الخلافات وإعلام السلم، بالتعاون مع دار الإفتاء في زنجبار، 13-20 نوفمبر 2017.

المغربتدريب لمجموعة طلبة جامعيين حول مفاهيم وآليات ترشيد الخلافات، وأدوات تحليل الخلافات ومفاهيم وآليات الإنذار المبكر والاستجابة السريعة، بالتعاون مع مركز مدى، 16-17 ديسمبر 2017.

لبنانمهمة ميدانية لمتابعة أنشطة المنتدى اللبناني للجمعيات الإنسانية، 8-12 يناير 2018.

ندوة عن الوقاية من التطرّف العنيفالمساهمة في ندوة عن موضوع “الاستثمار في السلام والوقاية لمواجهة التطرف العنيف”، نُظّمت في دار السلام بجنيف يوم 25 يناير 2018.

تشادتدريب المدربين لشبكة السلام التشادية، في مجال ترشيد الخلاف والوساطة، بالتعاون مع برنامج “الثقافة والدين في الوساطة” في المدرسة الفدرالية متعددة التقنيات بزيوريخ، 28-31 يناير 2018.


alt_text

مؤسسة قرطبة بجنيف (2002-2017): 15 عاما من الوساطة والعمل على تعزيز السلم

بقلم أليستار دافيسون (Alistair Davison)، المسؤول العام لمؤسسة قرطبة بجنيف

{slider=إقرأ المقال}

مقال نُشر لأوّل مرّة في مجلة كلفين (Klvin) – أكتوبر 2017

حال الوصول إلى مقرّ مؤسسة قرطبة بجنيف بنهج Les Vignes، يمكن رصد عدد هائل من المجلدات العربية تمتد من مستوى الأرض إلى غاية السقف. وحسب مدير المؤسسة عباس عروة فإنّ “هذا المكان يمثّل على الأرجح المكتبة العربية الأكثر تنوعًا بجنيف، وهو ملاذ هادئ لإعادة شحن الطاقة التي تساعد على العمل في العديد من السياقات الخلافية الصعبة”.

انطلاقًا من هذا المقرّ الضي يقع على مقربة من حيّ جنيف الدولي، تباشر مؤسسة قرطبة بجنيف جهودها في مجال الوساطة وتعزيز السلام وترشيد الخلافات. وقد تمّ وقف هذه المكتبة للمؤسسة من طرف الشيخ محمود بوزوزو، أحد المؤسسين وعضو مجلس الأمناء إلى أن وافته المنية في 2007، وكان الشيخ بوزوزو أحد رواد الحركة التحريرية في الجزائر وعالم ديني محترم مختص في الدراسات الإسلامية وصحفي ومصلح. كما تمثّل المكتبة حاليًا مصدرًا مهمًا للأدبيات والدراسات المتعلقة بالوساطة والخلافات، وسط أعمال أخرى لسيمون ديبوفوار وجون بول سارتر وكُتّاب وفلاسفة أوروبيين كبار آخرين.

وعلى مرّ الخمس عشرة سنة الماضية، عملت مؤسسة قرطبة بجنيف على تنظيم لقاءات بين إسلاميين وعَلمانيين من شمال أفريقيا، وبين أقباط ومسلمين من مصر، وبين سلفيين وصوفيين من منطقة الساحل. كما ساعدت على الوساطة بين الحكومة الدانماركية وتنظيمات إسلامية عقب أزمة الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول، ودعمت الحكومة السويسرية في العمل مع السويسريين المسلمين على تخفيف حدّة التوترات عقب التصويت لحظر المآذن.

أنشِئت مؤسسة قرطبة بجنيف في 2002، ويرتبط اسمها بقرطبة، المدينة الأندلسية التي عُرفت في العصور الوسطى بالحوار بين الثقافات والأديان واللغات، وكذا بجنيف التي تُعتبر حاليًا مركزًا دوليًا للوساطة والعمل الإنساني. ومنذ انطلاقتها، ركّزت المؤسسة عملها على البلدان ذات الغالبية المسلمة، وكذا البلدان التي تشهد توترات بخصوص إدماج وقبول المجموعات المسلمة.

ومنذ 2010، تتمّ إدارة برامج المؤسسة الرئيسية بالتعاون مع مكتب الدين والسياسة والخلاف بوزارة الشؤون الخارجية السويسرية، وبدعم من مانحين آخرين. وتركّز هذه البرامج على العديد من خطوط التوتر: الاستقطابات الأيديولوجية في شمال أفريقيا، والاحتقانات الطائفية في الشرق الأوسط، والتوترات العرقية والقبلية والدينية المتنوعة في منطقة الساحل. كما تدير المؤسسة مشاريع مهمة بالتعاون مع علماء دين مرموقين في هذه المناطق من أجل معالجة قضايا الغلوّ والعنف من خلال تفسيراتهم الخاصة للنصوص الدينية التي تعززّ مفهوم الوسطية.

يتمثل أحد المبادئ الجوهرية لمؤسسة قرطبة بجنيف في استقلاليتها، وقد سمح لها ذلك ببناء الثقة في العالمين العربي والإسلامي عن طريق شبكة علاقات كبيرة تسمح لها بالوصول إلى الفاعلين الدينيين ومن المجتمع المدني المحلي المؤثرين، ممّن تعرضوا للتهميش أو الإقصاء من مسارات السلام، ومن الذين يواجهون صعوبات أحيانا في التفاعل مع الحكومات بسبب الاختلاف الكبير في وجهات النظر. وبناء على الثقة التي تحظى بها لدى شركائها في هذه المناطق، تستطيع مؤسسة قرطبة بجنيف أن تكون جسرًا للتواصل ووسيطًا. ولم تكن هذه الميزة لتكون ممكنة لولا نجاح منهجية “الحوار من خلال الممارسة” التي تجمع الأطراف التي عادة لا تتفاعل من أجل العمل على مشاريع مشتركة، بهدف بناء الثقة وكسر الأحكام المسبقة والريبة المتبادلة. وتعتمد هذه المقاربة على مقولة “إنكم لا تحتاجون أن تكون لديكم نفس الدوافع للقيام بعمل مشترك، طالما أن النوايا متوافقة وأن العمل يسير في النفس الاتجاه”.

وقد أوضح الأخضر غطاس، مسؤول برامج بالمؤسسة، أن التركيز على السياق الإسلامي متعمّد ووجيه. “فعقب الحروب المدمّرة التي شهدتها أوروبا في القرن العشرين والوضعية اليائسة التي وجدت نفسها فيها بعد الحرب العالمية الثانية، انبثقت إرادة قوية للعمل على الحيلولة دون نشوب أية حرب مماثلة مجددًا. وأدّى ذلك إلى بروز علم متكامل في أوروبا خاص بالسلام ودراسات الخلاف، وإلى تطوّر أدوات وتقنيات للوساطة وترشيد الخلافات لتأمين ذلك. ففي حين أنّ الخلاف أمرٌ عادي ومكوّن ضروري في الحياة، فإنّ العنف يمكن تفاديه وينبغي أن يشكل آخر حلّ يتم اللجوء إليه. ولم يحدث تطوّر مماثل في البلدان ذات الغالبية المسلمة. وقد ساهمت قلة الأدوات الملائمة للتعامل مع الخلاف في انتشار العنف الرهيب الذي نشهده حاليًا في العديد من الصراعات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومنطقة الساحل، وهي المناطق التي يتركّز فيها عملنا”.

لدى المؤسسة فريق صغير يعمل بدوام كامل بجنيف وفي الميدان، لأعضائه خلفيات وتجارب متنوعة بما في ذلك دراسات النزاعات، والعلوم السياسية، والصحافة، واللغات، والفلسفة الإسلامية، بالإضافة إلى مجموعة كبيرة وكفؤة من المستشارين والباحثين من مختلف المناطق التي تنشط فيها المؤسسة. وأهمّ ميزة في هذا العمل تتمثّل في الشغف ببناء السلام وسط بيئة مليئة بالتحديات.

تمثّل جنيف أيضًا جزءًا من هوية مؤسسة قرطبة بجنيف، وبالنسبة لشارلوت مونيي (Charlotte Mounier)، مسؤولة برامج بالمؤسسة، “يشكّل تواجد مقرّنا بجنيف قَطعًا ميزة مهمة. ورغم أنّ عملنا يتركز في الغالب في الخارج، فإنّ عدم وجود ماضٍ استعماري لسويسرا، والسمعة الدولية التي تحظى بها جنيف كمقرّ للعديد من المنظمات غير الحكومية والهيئات الدولية ساهم في مزيد من المصداقية وثقة الناس على الميدان بنا كوسيط نزيه”.

وبفضل الدعم السخي من بلديات جنيف Lancy و Onex و Plan-les-Ouates، لدى مؤسسة قرطبة بجنيف علاقات على الصعيد المحلي أيضًا. وقد سمحت الهبات المقدّمة من قِبل هذه البلديات بالعمل على قضية تصاعد معاداة الأجانب في المجر، وتقديم دورة تدريبية لترشيد الخلافات في ليبيا وإدارة مشروع يهدف إلى إيجاد صحافة تروّج للسلام في موريتانيا.

من خلال شبكاتها، والمنتديات الإقليمية التي تديرها في إطار برامجها، تتلقى مؤسسة قرطبة بجنيف بشكل دائم طلبات للمساعدة والاستشارة والتدريب والوساطة. وترى سارة فرانك (Sarah Franck)، مسؤولة مشاريع بالمؤسسة أشرفت على إطلاق حملة جمع تبرعات متواجدة على الموقع الإلكتروني (www.cordoue.ch)، أنّ “هناك الكثير مما يمكن القيام به، ونحن نواجه عوائق مرتبطة بنقص الموارد المالية المخصصة لهذا الصنف الحساس من المشاريع، في هذه الفترة التي تتميز بكثير من الاضطرابات. ونعمل حاليا على تغيير كيفية جمع الأموال، ونسعى لإيجاد مصادر جديدة للدعم”.

في حين يمثّل “الابتكار” الشعار الجديد لمؤسسة قرطبة بجنيف، فإنّ الفريق لا يزال مرتبطا بإرث الماضي، وتمثّل المكتبة وسيلة تذكّر بشكل مستمر بثراء وتنوع هذا الإرث. “كنت أودّ لو كان بإمكاني القول أنني قرأت ولو عشر الكتب الرائعة التي تحيط بنا هنا بمقرّ المؤسسة”، يتأسّف عباس عروة، “لكن التطورات السياسية المتسارعة تبقينا منشغلين!”. فلنأمل أن يؤدي عمل مؤسسة قرطبة بجنيف إلى عالم أكثر سلامًا، ليسمح ذلك بتوفير مزيد من الوقت للاستفادة من هذا الكمّ الهائل من الكتب القيّمة ولمشاركتها مع أناس من مختلف الثقافات، مثلما كان الحال في مدينة قرطبة في عصرها الذهبي.


{/slider}

alt_text

برنامج الوقاية من التطرّف العنيف

معالجة العنف والتطرّف: أهمية المصطلحات

بقلم عباس عروة مدير مؤسسة قرطبة بجنيف

{slider=إقرأ المقال}

يناير 2018

تجدون النسخة المطوّلة لهذه الورقة، مع المراجع والرسوم البيانية، على الانترنت على الرابط:
https://www.cordoue.ch/publications-mega/research-papers/727

أضحت “مجابهة/محاربة التطرّف العنيف” أو “الوقاية من التطرّف العنيف” في السنوات الأخيرة موضوعًا يحتل مكانة بارزة في برامج بناء السلام. ومع ذلك، يحجب الاهتمام المتزايد بهذا الموضوع إشكالية غياب تعريف واضح ومقبول على نطاق واسع لمفهوم التطرّف العنيف. يهدف هذا المقال إلى الإسهام في الوصول إلى تعريف أكثر دقة للمصطلحات المستعملة في سياق التطرّف والعنف، والتوصل إلى نموذج وصفي لمسار الجنوح إلى التطرّف ومناقشة مختلف مقاربات إزالته.

ليس التطرّف مفهومًا “منعزلًا” بل يجب أن يعرّف بالعودة إلى مرجعية متّفق عليها (اصطلاح). ففي العلوم الطبيعية والاجتماعية، تُمثَّل التوزيعات المعيارية الطبيعية بيانيًّا بمنحنى جرسي، تكون قمته في المتوسط وله ذيلان يمتدّان يمينًا ويسارًا، يُحيلان إلى الطرفين الأعلى والأدنى بالرجوع إلى القيمة المتوسّطة. وفي مجتمع ما، يُمكن أن يُعتبر التطرّف انحرافًا عن المعيار المقبول لدى الأغلبية. لذلك، ما يُعتبر تطرّفًا يتوقّف على السياق الذي يوضع فيه المعيار. ويمكن أن يُحيل المتوسط المعتمد كمرجع إلى المعايير الموضوعة في إطار القانون الوطني أو الدولي أو المحلي أو الديني. يمثّل الطرف الأعلى الغلوّ وتجاوز المعيار، بينما يمثّل الطرف الأدنى الخنوع والعزوف عن الشأن العام. وتمثّل القيمة المتوسطة العمل بدون تجاوز ولا خنوع.

يُستعمل مصطلح “الراديكالية” غالبًا بمعنى سلبي في النقاشات المتعلقة بالتطرّف العنيف. ترتبط الراديكالية بلفظradical المشتق من اللاتينية راديكس radix ويعني الجذر. وتُحيل الراديكالية السياسية إلى آراء وسلوكات الأشخاص الذين يدافعون عن التغيير السياسي الجذري. فيما تُعنى الراديكالية الدينية بالعودة إلى الجذور، بمعنى فهم وممارسة للدين يمتثلان للمصادر الدينية كما فمها وعاشها المؤمنون الأوائل. فهي تتعلّق إذن بالأرثودوكسية والأرثوبراكسية.

العنف هو “الأفعال والكلمات والمواقف والبنى أو النظم التي تتسبّب في ضرر بدني أو نفسي أو اجتماعي أو بيئي و/أو تحرم الناس من الوصول إلى كامل إمكانياتهم البشرية” (Fisher et al. Working with Conflict. Zed Books & Responding to Conflict, 2000). وغالبًا ما يعتمد الموقف بخصوص العنف المباشر، الذي قد يتّخذ شكل كفاح مسلح، على ثلاثة مقاييس: المشروعية، والقانونية، والفعالية. ففي حين يعتبر السلاميون العنف غير مشروع وغير مقبول أخلاقيا مهما كانت الظروف، هنالك اعتقاد سائد (ديني وغير ديني) بأن العنف قد يكون مشروعًا في بعض الحالات (الدفاع عن النفس، مقاومة الاحتلال، الدفاع عن الغير، إلخ). وهنالك العديد من الأحكام في القانون الدولي التي تضفي القانونية على العنف في حالات العدوان أو الاضطهاد. كما يقرّ القانون الديني أيضًا بشرعية العنف في بعض الحالات (مثلا نظرية الحرب العادلة في المسيحية والجهاد المسلّح في الإسلام). غير أن اللجوء إلى السلاح يُعتبر عملًا مكروهًا، لا يؤذن به إلا كملاذ أخير في ظل ظروف معيّنة وبشروط محدّدة. وتُحدّد شرعية هذا العنف بمبرراته الوجيهة وباستعماله الأمثل الذي يستلزم الامتثال للقانون الدولي الإنساني و/أو القوانين الدينية للحرب. ويمكن للعنف القانوني أن يكون شديد الكثافة، كما لا يتعلّق العنف المتطرّف بالشدة بل بدرجة الانحراف عن القانون الدولي الإنساني و/أو القوانين الدينية للحرب. ولا يعترض أغلب المدافعين عن اللاعنف الاستراتيجي على مشروعية وقانونية العنف، لكنهم لا يؤمنون بفعاليته.

من الأهمية بمكان فهم الفرق بين الراديكالية والتطرّف والعنف والعلاقات بينها، وذلك ليس فقط من باب الصرامة الفكرية بل وقبل كل شيء لضمان فعالية العمل المناهض للعنف المتطرّف والإرهاب. يرتبط التطرّف والراديكالية ببعدين مختلفين تمامًا، حيث يتعلّق الأول بمدى “المجانبة” (البعد عن الوسط)، أما الثاني فيتعلق بمدى العمق (القرب من الجذر)؛ إذ يبحث الراديكاليون الدينيون عن العمق التاريخي والقرب من الرسالة الأصلية، بينما يسعى الراديكاليون السياسيون إلى العمق في التغيير. فضلًا عن ذلك، ليس الراديكاليون والمتطرّفون عنفيين بالضرورة، حيث يدافع بعض الراديكاليين عن اللا-عنف، ويدافع البعض الآخر عن العنف غير المتطرّف. كما لا يستعمل بعض المتطرّفين العنف، في حين يجتذب آخرون إلى العنف المتطرّف. ويمكن للجماعات الراديكالية أن تصبح متطرّفة غير أن الراديكالية ليست شرطًا مسبقًا للتطرّف.

في السياق الإسلامي، ينهى القرآن عن الغلوّ والتطرّف في ممارسة الدين: “لا تغلوا في دينكم” (النساء:171 والمائدة:77) والغلوّ هو الميل إلى الطرف (الطرفية). ويقترح القرآن بديلًا عن الغلوّ يتمثل في الوسطية وهي الميل إلى الوسط: “وكذلك جعلناكم أمة وسطا” (البقرة:143).

لا شكّ أنّ الكراهية في صميم الطرفية، وقد اقترح ابن رشد القرطبي (1126/1198) صيغة تحدّد العوامل المؤدية إلى الكراهية والعنف: “الجهل يدعو إلى الخوف، والخوف يدعو إلى الكراهية، والكراهية تدعو إلى العنف. هذه هي المعادلة.” غير أنه فضلا عن المسار الذي وصفه ابن رشد، هنالك مساران آخران يؤديان إلى الكراهية والعنف إما عبر “الإقصاء والإحباط” أو عن طريق “العدوان وحبّ الانتقام”. ويُعتبر الجهل والإقصاء تمظهرين للعنف البنيوي، في حين يعتبر العدوان عنفًا مباشرًا. يمكن أن يتمّ الجنوح إلى التطرّف من خلال التعاطف ولا يحتاج الفرد الذي يميل إلى التطرّف بالضرورة إلى أن يكون ضحية للعدوان و/أو الإقصاء، إذ يمكن له أن يشعر بالأذى الذي يلحق بالآخرين ويشاطرهم معاناتهم. إن التطرّف صفة مكتسبة تتعدّى الجنس والسن والعرق والدين والمكانة الاجتماعية. فكل شخص له “قابلية للتطرف” ويمكن أن يصبح متطرّفًا إذا ما توفّرت له بعض الشروط الخارجية والداخلية. ويمكن للفرد أن يقاوم الانجذاب للأطراف إذا توفّرت لديه الموارد الداخلية الكافية.

يمكن النظر إلى الجنوح إلى التطرّف كعملية من ثلاث مراحل. حيث تبدأ (المرحلة 1) بتغيّر في الموقف، وتحوّل تدريجي من حالة الوسطية (الميل إلى الوسط) إلى حالة الطرفية (الميل إلى الطرف). يلي ذلك (المرحلة 2) بناء إطار أيديولوجي أو ديني يَسنُدُ الموقف فتتحوّل الطرفية (نزعة) إلى تطرّف (أيديولوجية). وتُستعمل مرحلة التوطيد هذه لتبيين وتبرير وعقلنة التغيّر في الموقف. ويمكن أن يؤدي ذلك – لكن الأمر غير حتمي – إلى تغيّر في السلوك، فيؤول التطرّف إلى (المرحلة 3) استعمال العنف المتطرّف. يتسبّب في هذا التحوّل في الموقف عدد من العوامل الخارجية: الـ(جيو)سياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتحفّزه عوامل داخلية (نفسية). ويمكن الإشارة إلى مجموعة العوامل الأولى بالأسباب العميقة وإلى مجموعة العوامل الثانية بالظروف المفاقمة، وتُعتبر هذه العوامل جميعها عوامل دفع. هنالك أيضا البيئة المسهّلة التي قد تجذب الأشخاص إلى العنف المتطرّف مثل الدعاية التي تستعملها التنظيمات المسلّحة ونشر الأيديولوجية المتطرّفة في وسائط الإعلام التقليدية وشبكات التواصل الاجتماعي، وأيضًا المحفزات المالية والشعور بالاعتراف من طرف الغير وإثبات الذات والإحساس بالانتماء إلى المجموعة وبالقيمة الذاتية داخلها، إلخ. ولا يمكن لعوامل الجذب هذه أن تكون فاعلة في غياب الأسباب العميقة و/أو الظروف المفاقمة. إنّ كل مقاربة للتطرّف والعنف تقتصر على واحد من هذه العوامل ستكون حتما غير مجدية بل وقد تؤدي إلى نتائج عكسية.

هنالك العديد من المسارات الممكنة المؤدية إلى اللاعنف أو إلى العنف غير المتطرّف، وكذا إلى التطرّف والعنف. المسار 1. الوسطية > الطرفية > العنف المتطرّف: ليست مرحلة التوطيد الإيديولوجي أو الديني ضرورية للانخراط في العنف المتطرّف بالنسبة للأشخاص الذين يغلب عليهم الجانب الانفعالي على الجانب العقلي. المسار 2. الوسطية > الطرفية > التطرّف > العنف المتطرّف: بالنسبة للأشخاص الذين يغلب عليهم الجانب العقلي على الجانب الانفعالي، يُعتبر التوطيد الإيديولوجي أو الديني ضروريا من أجل عقلنة الموقف المتطرّف، وتبرير استعمال العنف وتبيين الانفعالات والتعبير عنها وإنتاج الخطاب. كما يؤدي دور الاسمنت الذي يرصّ تماسك المجموعة. المسار 3. الوسطية > التطرّف > الطرفية > العنف المتطرّف: لا تشتغل أيديولوجية التطرّف بفعالية على شخص لم يشهد تغيّرًا في الموقف. وبدون الطرفية، يبقى التطرّف في حالة مجرّدة وخاملة، إذ لا يكون للنص الديني أو الأيديولوجي أثر يذكر في سياق اجتماعي وسياسي غير مواتٍ. المساران 4 و5: للشخص مناعة ضد إغراء التغيّر في الموقف ويقاوم الوقوع في الطرفية والتطرّف، بحيث يردّ على العدوان أو الإقصاء إما بوسائل عنفية قانونية غير متطرّفة (المسار 4. الوسطية > العنف غير المتطرّف) أو بوسائل لاعنفية مع اعتقاد صارم بأنه السبيل الأنجع والأكثر شرعية وقانونية لإحداث التغيير الإيجابي (المسار 5. الوسطية > اللاعنف)، ويتمثّل التحدّي الذي تواجهه أيّ استراتيجية ترمي إلى إزالة التطرّف في تخفيض احتمالية المسارات من 1 إلى 3، بالتزامن مع الزيادة في احتمالية المسار 4 أو 5.

تتمثل إحدى سبل التعامل مع الجنوح إلى التطرّف في بتر توزيع المنحنى الجرسي المذكور آنفًا من طرفه الأعلى. هذه هي عقيدة الاستئصال غير المميّز، وهي المقاربة الأمنية الصرفة والصلبة أو الأيديولوجية الأمنية (الأمنوية). لقد أبانت هذه المقاربة خلال العقدين الماضيين على قصورها وأثبتت عدم فعاليتها بل أنها أدّت إلى نتائج عكسية. فعباراتٌ من قبيل “تدمير التنظيم” ليست إلا مجرّد وهم. فبالإمكان القضاء على الأفراد، وهزم التنظيم عسكريا، لكن ما لم يتمّ القضاء على الأسباب العميقة للجنوح إلى التطرّف فسينبعث التنظيم بل، أسوء من ذلك، قد يخرج من أشلائه تنظيم آخر أكثر عنفا. فضلا عن ذلك، تسهم هذه المقاربة في تعزيز وتوسيع رقعة الطرف الأدنى للمنحنى الجرسي المتمثّل في الخنوع –الذي يُعرَض مغالطةً على أنه شكل من أشكال المرونة– والذي يُسهم غالبًا في الإبقاء على وضع اجتماعي وسياسي جائر. وينجرّ عن ذلك حتمًا إحياء الطرف الأعلى للمنحنى الجرسي من جديد.

تُعرَّف المرونة في العلوم الفيزيائية بأنها “الخاصية التي تسمح للمواد بالعودة إلى شكلها الأصلي أو الوضعية الأصلية بعد انحنائها أو تمدّدها أو ضغطها”(American Heritage Dictionary of the English Language)، فهي ترتبط بـ”كمية الطاقة الكامنة المختزنة في المواد المرنة عند تشوّهها” (Collins English Dictionary). ومن أجل استرجاع شكلها الأصلي، على المواد تحرير الطاقة المختزنة. وكلّما كانت المواد مرنة كلّما انتقلت الطاقة بشكل سلس. أمّا في حال المواد ضعيفة المرونة، فانتقال الطاقة يتسبّب في انكسارٍ قد يكون عنيفًا. ويعمل الإقصاء والإحباط مثل قوانين الفيزياء، فهما يضخّان في الفرد أو مجموعة الأفراد كمية من الطاقة الانفعالية يجب التخلّص منها في مرحلة معيّنة. وإنّ غياب فضاء للحرية يسمح بانتقال سلس لهذه الطاقة يؤدي حتمًا إلى الانكسار والانفجار. فالمجتمع المرن ليس المجتمع الذي يلجأ إلى الخنوع والقبول بالإقصاء والجور، بل هو مجتمع لا إقصائي يضطلع أفراده بدور نشط ويتمتّعون بالحرية وينعمون بالاحتياجات الضرورية وبحقوق الإنسان الأساسية.

تمثّل الأمنوية للأمن ما تمثّله الجهادوية للجهاد أي شكلًا فاسدًا. ففي حين يُمكن أن نعتبر الأمن، مثله مثل السلام، حاجة ضرورية وحقًا أساسيًا من حقوق الإنسان، تقوم أيديولوجية الأمنوية على أساس الاعتقاد بأنّ المقاربة الأمنية الصلبة هي السبيل الوحيد الكفيل بمعالجة العنف المتطرّف والإرهاب وباستتباب السلم. وتُسهم الأمنوية غالبًا في الإبقاء على وضع جائر يركّز على أمن الدولة ويتجاهل الأمن البشري، وتؤول غالبًا إلى انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان، وإلى التطرّف العنيف للدولة وإرهاب الدولة. ويمكن تعريف الجهاد الذي يعتبره المسلمون فريضة دينية بأنه جهد بأية وسيلة مشروعة يهدف إلى محاربة: (1) جميع الشرور الكامنة داخل النفس؛ (2) والظلم المتواجد بجميع أشكاله خارج النفس. أمّا الجهادوية فهي أيديولوجية تعتمد على الاعتقاد بأنّ الجهاد المسلّح هو الطريقة الوحيدة للتعامل مع العدوان الخارجي والاضطهاد الداخلي، وبأنّ الجهاد المسلّح غايةٌ وليس وسيلة. وغالبًا ما تؤول الجهادوية إلى انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان وإلى الإرهاب الفردي أو الجماعي.

ليست الأمنوية إلا انعكاسًا للجهادوية، حيث تغذّيان بعضهما البعض وتشيعان العنف. فالجهادوية شكل من أشكال التطرّف تنتهك القانون الإسلامي، والأمنوية شكل من أشكال التطرّف تنتهك القانون الدولي. وتقع كلتاهما في الاستعمال المفرط للعنف، خارج إطار القانون، وترتكب كلتاهما جرائم ضد المدنيين الأبرياء: الجهادوية عندما تقتل الأبرياء من خلال الأعمال الإرهابية، والأمنوية عندما تقتل الأبرياء بواسطة الطائرات المسيّرة آليًا وسياسة “التجريم بالصلة” والعقاب الجماعي. في نهاية المطاف، تُخفق الأمنوية في هزيمة التطرّف العنيف للجماعات، مثلما تعجز الجهادوية عن هزيمة التطرّف العنيف للدول.

هناك طريقة بنّاءة أكثر لمعالجة الجنوح إلى التطرّف، من خلال العودة إلى الوسطية، بإعادة الأفراد والجماعات المتطرّفة (من كلا الطرفين الأعلى والأدنى) إلى موقع الوسط وإلى دور المواطنين الفاعلين غير العنفيين.

ينبغي على الاستراتيجية الناجحة لإزالة التطرّف أن: (1) تقرّ بأنه خلف العنف (المتطرّف) هنالك “صدمة لم تُعالج و/أو خلاف لم يحلّ” (يوهان غالتونغ). وترمي هذه المقاربة إلى ترشيد الخلاف بين الفرد أو التنظيم المتطرّف والمجموعة البشرية المحلية أو الوطنية أو الدولية؛ (2) أن تكون محلية الصنع تأخذ في الحسبان السياق المحلي وتُظهِر قدرًا من التعاطف. فينبغي أن يُنظر إلى الأفراد والجماعات المتطرّفة على أنهم بشر ينبغي هدايتهم لا على أنهم كيانات مجرّدة ينبغي استئصالها؛ و (3) التعاطي مع الخطوات الثلاثة لعملية الجنوح إلى التطرّف وتجنّب التركيز على الخطوة الأخيرة فقط المؤدّية إلى العنف. تكمن الوقاية من التطرّف والعنف في التوجّه إلى القلوب والعقول والأيادي ومعالجة الأسباب والحجج والأفعال.

ينبغي معالجة عوامل الكراهية والأسباب العميقة المؤدية إلى العنف والملخّصة في ثالوث الظلم “الجهل/ العدوان/ الإقصاء”. يتمّ الحدّ من الجهل بتعزيز اللقاءات التي تشجع على التعارف وتفكيك الصور النمطية وبناء الثقة. ويؤدي ذلك إلى الاعتراف والاحترام المتبادلَين وإلى تصوّر تفاعل إيجابي وتعايش أفضل. ويتمّ الحدّ من العدوان بتعزيز علاقات دولية ووطنية أكثر عدلًا تقوم على أساس قوة القانون وليس قانون القوة. ويتمّ الحدّ من الإقصاء بتعزيز المشاركة الجامعة في بناء المجتمع والدولة، من خلال مكافحة التهميش على جميع الأصعدة وإعطاء فضاء للناس للتعبير عن أهدافهم سلميًا.

ومن أجل معالجة التوطيد الإيديولوجي أو الديني للطرفية ينبغي الاستثمار في التعليم الرسمي وغير الرسمي وفي وسائل الإعلام الرئيسية والبديلة. وفي السياقات الإسلامية، ينبغي الترويج لمفهوم الوسطية كبديل للغلوّ في أوساط الناشئة وداخل وحول الجماعات الشبابية المتطرّفة. وينبغي أن يحمل هذا الخطاب علماء مؤثّرون –غالبًا ما يكونون راديكاليين– يُعترف لهم بالعلم الرصين والاستقلالية، عبر وسائط وقنوات موثوقة.

لا شكّ أنّ إجراءات الأمن الوقائي والقمعي مشروعة وضرورية للوقاية من العنف المتطرّف ومحاربته. لكن على هذه الإجراءات أن تكون قانونية وعادلة وتحترم حقوق وكرامة الإنسان. إنّ الأجهزة الحكومية التي تفشل في احترام هذه المبادئ وتمارس العقاب الجماعي غير المميّز، والاغتيالات غير القانونية وتعاقب ليس فقط على الأفعال وإنما على الأفكار والنوايا لا توفّر الأمن لمجتمعاتها بل تستعمل التطرّف العنيف للدولة وتفشل في نهاية المطاف في وضع حدّ للتطرّف العنيف للأفراد والجماعات التي يُفترض أنها تحاربه. على العكس من ذلك، فهي تسهم في إحيائها من جديد واستمرارها. يقتضي التغيير في سلوك العنف المتطرّف إشاعة الأحكام الأساسية للقانون الدولي الإنساني والقوانين الدينية للحرب لدى الجماعات المسلّحة من خلال وسائط موثوقة والترويج لثقافة اللاعنف بالوسائل الملائمة التي تتماشى مع السياق المحلي. كما يتعيّن تشجيع الشباب على استعمال اللاعنف الاستراتيجي لإحداث التغيير الاجتماعي والسياسي وينبغي توعيتهم بفعالية هذا النهج في حالة عدم التماثل في القوة.

وخلاصة القول، فإنّ استعمال المصطلحات المناسبة له دور بالغ الأهمية في سياق مكافحة العنف والتطرّف. ومن المحوري، من منظور الصرامة الفكرية وأيضًا نجاعة العمل، التمييز بين التطرّف والراديكالية والعنف وفهم العلاقات التي تحكمها. ومن المهم أيضًا إدراك مختلف المسارات التي تؤدّي إلى الكراهية والعنف وفهم مسار الجنوح إلى التطرّف بكل تعقيداته. ويعدّ ذلك شرطًا مسبقًا لتصميم أيّ برنامج يرمي إلى إزالة التطرّف ويهدف إلى إحداث أثر حقيقي. لقد أبانت المقاربات الأمنية الصلبة عن قصورها وحان الوقت للاستثمار في ترشيد الخلافات وتبنّي مقاربات شاملة تعالج جميع خطوات الجنوح إلى التطرّف وكافة عوامل الدفع والجذب المؤدية إلى العنف، بما في ذلك الأسباب العميقة والظروف المفاقمة والبيئة المسهّلة.

{/slider}
 

Share this post