قناة الجزيرة بين مواجهة إعلام الحرب ومجابهة الحرب على الإعلام

قناة الجزيرة بين مواجهة إعلام الحرب ومجابهة الحرب على الإعلام

ما أحوجنا اليوم، والعالم يعاني من تضخم في عدد النزاعات العنيفة بين الجماعات وبين الدول وحتى بين الفضاءات الثقافية، إلى “إعلام سلم”، أي إعلام يقدّم لنا مفاتيح لفهم النزاعات ويعيننا على الإحاطة بالتناقضات التي تكمن من ورائها ويقترح علينا مسالك للتفكير في كيفية تحويلها وتجاوزها. فحين يتعلق الأمر بتغطية النزاعات، نرى أنّ الإعلام السائد اليوم هو “إعلام حرب” يخلط بين مفهوم “النزاع” ومفهوم “العنف” ولا يغطي للأسف سوى الأعراض، من موت ودمار، متجاهلا – عمدا أو سهوا – التطرق للأسباب ولوسائل العلاج.

وقد أثبتت الحرب الأولى على العراق في بداية العشرية الأخيرة من القرن الماضي دور الإعلام كـ”سلاح حرب” شديد البطش، وقدّمت تغطية “عاصفة الصحراء” من طرف قناة الـ CNN مثالا حيا لإعلامٍ موجَّه، في خدمة البنتاغون، كُلّف بالدعاية لمصطلح “الحرب الجراحية”. كما أكدت الحرب على أفغانستان (2001) والحرب الثانية على العراق (2003) هذا الدور، بل وعززته بظهور “الصحفي المُدخَل” (embedded journalist) أي الصحفي المسلِم لإرادة البنتاغون، المعتمَد من طرفه، المنخرط في منظومته العسكرية.

إلا أنّ هاتين الحربين الأولتين في القرن الحادي والعشرين، اللتين تقودهما الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها، أظهرتا أيضا أنّ قناتي الـ CNN و الـ Fox News لم تعودا تحتكران عملية الإخبار أثناء النزاعات المسلحة، فقد نشأت وسائل إعلام جديدة أثبتت قدرتها على تقديم “منظور آخر” للرأي العام، ومن هذه الوسائل تحتل قناة الجزيرة موقع الصدارة بما تميزت به أثناء حربي أفغانستان والعراق من مهنية. وكما أشار إليه خبير دراسات السلم البروفيسور النرويجي يوهان جاتونغ في كتابه الأخير (تغطية النزاعات)، ففي حين كانت الـ CNN تقدّم تقارير عن كيفية إرسال القنابل والصواريخ، كانت تقارير الجزيرة تشرح كيف كانت هذه القذائف تصل إلى الأرض وتصف المعاناة الجسيمة التي كانت تتسبب فيها الهجمات التي لم تكن بالدقة “الجراحية” التي ما فتئت تروّج لها المؤسسة العسكرية الأمريكية.

وكان من المتوقّع أن لا ترحّب الإدارة الأمريكية بهذه المنافسة الإعلامية غير المرتقبة، وأن تنزعج من صوَر تقدّم وصفا مغايرا للواقع الميداني لحروب أُضرمت نارها باسم “مناهضة الإرهاب”، ومن مشاهد تخدش صورة جيش أمريكي “محرِّر” لشعبي أفغانستان والعراق. فلا يُستغرب إذن أن تستجلب قناة الجزيرة غضب واشنطن إلى حد قصف مكتبها في كابل أثناء حرب أفغانستان وقصف مكتبها في بغداد أثناء احتلال العراق، متسببة في استشهاد مراسلها طارق أيوب وإصابة مصوّرها زهير العراقي بجروح. وقد عبّر نائب وزير الدفاع آنذاك بول وولفوفيتش، صاحب النفوذ القوي وأحد المنظرين لحرب العراق، عن غضبه الشديد لعدم تَمَكّنِه من السيطرة على تدفّق الصوَر القادمة من العراق في حديث مع قناة الـ Fox News في يوليو 2003 قائلا: “إنّ قناة الجزيرة تُعرِّض الجنود الأمريكان للخطر”. وكما كشفت عنه اليومية البريطانية Daily Mirror في عددها المؤرخ بـ 22 نوفمبر 2005، فإنّ تضايق الإدارة الأمريكية من قناة الجزيرة وصل إلى حد تفكير بوش جِدّيا في قصف مقرّ القناة في الدوحة كما رشح من لقاء جمعه بنظيره بلير في شهر أبريل 2004.

وفي إطار هذه الحرب المعلَنة على الإعلام الحر، المستقل عن الإدارة الأمريكية، يتعيّن إدراج عملية توقيف الصحفي سامي الحاج نهاية 2001 في مدينة بيشاور الباكستانية أين كان يقوم بمهمته الإعلامية، واعتقاله في بغرام ثم تحويله إلى محتشد خليج غوانتانمو سيء السمعة الذي دفعت ظروف الاعتقال فيه عددا من السجناء إلى الجنون. مكث سامي الحاج ست سنوات ونصف في هذه البقعة من العالم الخارجة عن إطار القانون والتي يتم فيها تجريد البشر من إنسانيتهم، سنوات طويلة قضاها في عزلة خانقة داخل زنزانة ضيقة، تتخللها حصص لا حصر لها من التعذيب، ومواعيد متكررة مع أنواع الإهانة التي وصلت إلى انتهاك المقدَّس، وإضرابات متتالية عن الطعام، إلى أن أُطلق سراحه في غرة مايو الماضي من غير إدانة، بل بدون أدنى محاكمة.

خلال الحفل الذي أُقيم الشهر الماضي في مقر الجزيرة بالدوحة لتكريم سامي الحاج صرّح الصحفي الطليق بأنه ترك غوانتانمو عازما على النضال بكل ما أوتي من قوة من أجل الإفراج ليس فقط عن الـ 270 معتقل في غوانتانمو بل وعن الـ 27 ألف ضحية الذين يقبعون في غياهب السجون السرية في العراق وأفغانستان وغيرها، ومن أجل إغلاق قولاق القرن الجديد (Gulag of 21st Century) ولَأْمِ الجرح الأخلاقي الذي يؤلم الإنسانية جمعاء.

وبهذه الروح والمعنويات العالية زار سامي الحاج مدينة جينيف الأسبوع الماضي في حملة تحسيسية للهيئات الأممية والمنظمات غير الحكومية لحقوق الإنسان، فأبرز وجها آخر لأصحاب اللباس البرتقالي الذين طالما قُدّموا للرأي العام على شكل وحوش مكشرة عن أنيابها لاغتيال الحضارة والنيل من العالم الحر. كما قدّم مثالا مشرّفا للصحفي العربي النزيه. بالفعل، ما من أحد التقى سامي الحاج في جينيف إلا وانبهر به شكلا ومضمونا. العزة والكرامة التي تُستقرأ من هندامه ولغته الجسدية، وأسلوبه المركّز والدقيق في الحديث، وخطابه الذي يوازن بين الشدة في إدانة سياسات الظلم وممارسات العدوان وانتهاكات الحريات والحقوق، من جهة، والتسامح حتى مع جلاديه الذين يعتبرهم ضحايا استعملوا كأدوات للقمع، من جهة أخرى، إضافة إلى تفانيه في ذكر مَن يزالون في الاعتقال، فهو سفيرهم كما ردده في أكثر من مقام، وتغاضيه – حياء – عن الحديث عن معاناته الشخصية، كل ذلك أثار إعجاب واحترام الجميع، إلى درجة أنّ إحدى أقدر الصحفيات السويسريات المتعاطفة مع القضايا العادلة نعتته بـ”الرجل الصالح” لِما تركته في نفسها إحدى مداخلاته من أثر بالغ.  

لقد سعدنا كثيرا بقرار استحداث قسم لشؤون الحريات وحقوق الإنسان بقناة الجزيرة وتعيين سامي الحاج مشرفا عليه. وإن كانت قناة الجزيرة أثبتت في عشرية من الزمن دورها كمنبر لحرية التعبير وأداة فاعلة في رفع مستوى الوعي السياسي لدى الشارع العربي، فإنّ قسم الحريات وحقوق الإنسان الجديد سيجعل منها بلا شك، إن توفّرت له الإمكانيات الضرورية، وسيلة هامة لرفع مستوى الوعي الحقوقي للمواطن العربي. وفي مقابل ذلك سيحظى هذا القسم إن شاء الله بدعم الهيئات والأفراد الذين يناضلون من أجل حماية وتعزيز حقوق الإنسان العربي، وإمداده بالمعلومات والاستشارة الفنية. ولا يسعنا في هذا المقام إلا أن نقدّم تهانينا الحارة لسامي الحاج بهذا التعيين، وهو به جدير، متمنيين له التوفيق في مهمته النبيلة، سائلين الله عزّ وجلّ أن يُديم عليه العافية والعزيمة والثبات حتى يكون صوتا قويا لمن لا صوت لهم من المضطهَدين والمعذَّبين والمغيَّبين والمشرَّدين والمفقَّرين والمجهَّلين والمكمَّمين والمستعبَدين وغيرهم كثير من المستضعَفين والمحرومين وذوي الحقوق المهضومة.

د. عباس عروة
مدير مركز قرطبة لدراسات السلم
جينيف، 5 يوليو 2008

Kriegsjournalismus und Krieg gegen den Journalismus/Journalisme de guerre et guerre contre le journalisme

 

 

Partager cette publication