التعاون الانساني كسبيل للترشيد السلمي للخلافات: التجربة اللبنانية

alt_text

التعاون الانساني كسبيل للترشيد السلمي للخلافات: التجربة اللبنانية

تتمثل التجربة البنانية لمنتدى الجمعيات الانسانية في تعاون بين ست منظمات مختلفة الملمح كسبيل لترشيد الخلافات. يرمي هذا المشروع إلى ترقية العيش المشترك داخل الفضاء الوطني اللبناني على أساس احترام التعددية والمواطنة.

في أوت 2018، التأمت ست منظمات إنسانية مختلفة الملمح ووقعت على مذكرة تفاهم ترمي أساسا إلى ترقية مشاركة لا إقصائية وتلاحم مجتمعي من خلال تنظيم أنشطة تعاون ملموسة سواء في إطار المشاريع الإنسانية أو الثقافية. يسهم مشروع التعاون هذا في تحقيق هدف برنامج الشرق الأوسط لمؤسسة قرطبة بجنيف، والذي تدعمه وزارة الشؤون الخارجية السويسرية والمتمثل في الترشيد اللاعنفي للخلافات من خلال إشراك الفاعلين المسلمين الرئيسيين في المؤتمرات الدينية المختلفة في ظل سياقات محلية وبتعزيز التلاحم واللا-إقصاء بين مختلف مكونات النسيج الاجتماعي.

السياق اللبناني وإنشاء منتدى الجمعيات الإنسانية

ساهمت الاستقالة المفاجئة لرئيس الوزراء الحريري في 4 نوفمبر 2017 وإلغائها في 5 ديسمبر 2017[1] في تفاقم عدم الاستقرار السياسي في لبنان، حيث يمثل هذا الأخير عاملا محتملا لزعزعة استقرار النسيج المجتمعي في البلاد. وينظر للانتخابات التشريعية المقبلة المزمع تنظيمها في 6 ماي 2018، وهي الانتخابات الأولى منذ 2009، بترقب شديد لكن وبحسب البعض فإن الوضع الراهن السياسي المؤسس على خط الانقسام الطائفي سيظل قائما، بل ويمكن لهذا الانقسام أن يتفاقم أخذا بعين الاعتبار النظام الانتخابي الجديد المتفق عليه[2]. غير أن بروز مبادرات مواطنة جديدة مثل “لبلدي” يمنح بدائل للمواطنين اللبنانيين الذين لا يجدون أنفسهم في التشكيل السياسي الطائفي الحالي[3].

كما يعاني البلد أيضا من وضع اقتصادي ينذر بالخطر وغالبا ما يتم تصويره في وسائل الإعلام الوطنية كنتيجة مباشرة للتدفق الهائل للاجئين السوريين وسوء الإدارة السياسية لهذه القضية. في مقالتها “اللاجئون السوريون، ثروة غير متوقعة للاقتصاد اللبناني”[4] ، تقيّم روزالي بيرتيي، مستشارة في مركز سينابس Synaps للأبحاث، هذا التحليل من خلال التأكيد على الجوانب الإيجابية لاستقبال اللاجئين. ومع ذلك، فإن المشاعر العامة التي يعبر عنها السكان تقترب من السخط، الأمر الذي يميل إلى زيادة مواقف كراهية الأجانب تجاه اللاجئين السوريين بشكل كبير. بالإضافة إلى ذلك، فإن المعلومات القليلة التي تتوفر عن اللاجئين السوريين في لبنان تميل إلى زيادة عدم اليقين والخوف. ويجري حاليا دراسة سيناريوهات عودة هؤلاء اللاجئين إلى سوريا، حيث تشير مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين إلى أن عدد اللاجئين السوريين حالياً يبلغ مليون شخص، مقابل 1.2 مليون العام 2017. ويرجع هذا الانخفاض إلى حقيقة أن الأفراد غادروا التراب اللبناني، أوتم نقلهم أو قضوا. تعترض الحكومة اللبنانية على هذه الأرقام التي تعتبرها أقل من الواقع. وفي خضم هذه الأزمة السياسية والإنسانية، وعدم اليقين أيضا فيما يتعلق بتسوية الخلاف السوري، هددت الحكومة الأمريكية بقطع تمويل وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأوسط (الأونروا)، وهو قرار ستكون له تبعات مأساوية حسب مختلف المشتغلين في عالم المنظمات غير الحكومية والحكومات[5]. وعليه فإن اعتبار الجهات الفاعلة المحلية في المساعدات الإنسانية بمثابة محاور شرعي يبدو أكثر من أي وقت مضى حاجة حقيقية لتلبية احتياجات المستفيدين من هذه المساعدات. سيساهم هذا التوجه الاستراتيجي بشكل كبير في إرساء سلام إيجابي في لبنان.

تمثل المبادرة اللبنانية لمنتدى الجمعيات الإنسانية تجربة وطنية فريدة من نوعها، حيث أنها تجمع في نفس مجال النقاش والعمل الميداني ذاته منظمات متعددة المشارب والقيم (المنظمات السنية والشيعية والعلمانية من الدول الست الموقعة على مذكرة التفاهم. يجتمع منتدى الجمعيات الإنسانية كل شهر حيث يتم تبادل وجهات النظر بشأن تنفيذ أنشطة ملموسة، مما يستدعي على وجه الخصوص ممارسة الإجماع على العديد من النقاط مثل اللوجيستيات، وتصميم المشروع، وتحديد المستفيدين، وأخيرا إشعاع المشروع.

يقدم منتدى الجمعيات الإنسانية من خلال تنفيذ الأنشطة المشتركة المترتبة عن عملية الحوار وبناء الإجماع (منهجية ممارسة الحوار)، بعيدا عن الانقسامات الطائفية والدينية، صورة فريدة ومبتكرة في السياق اللبناني.

التجربة اللبنانية ، مشروع برنامج “HUMED” لمنتدى قرطبة بجنيف

تعمل مؤسسة قرطبة بجنيف منذ عدة سنوات على إنشاء برنامج وساطة شامل في الحقل الإنساني (“ الوساطة الإنسانية أو (« HUMED ؛ يهدف هذا البرنامج إلى الترويج لفضاء وساطة آمن (SMS) للهيئات الإنسانية والمنظمات الخيرية ذات الملامح الدينية والثقافية المتنوعة من أجل حوار واكتشاف أرضية مشتركة وبناء علاقات عمل. لذلك يعتبر المشروع في لبنان نوذجا عن البرنامج المواضيعي.

ينطلق الدافع وراء تنفيذ برنامج HUMED من ثلاث ملاحظات رئيسية: (1) يؤثر الخوف المتبادل وانعدام الثقة بين منظمات الطوائف الدينية وغير الدينية والدولية والإقليمية والمحلية – لا سيما في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومنطقة الساحل على فعالية التعاون بين هذه المنظمات من حيث تخطيط وتنفيذ برامج الإعانة ؛ (2) تؤثر العناصر المذكورة أعلاه مباشرة على توزيع الإعانات ويمكن أن يكون لها عواقب محتملة خطيرة على المستفيدين من المساعدات الإنسانية والخيرية والإنمائية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن عدم التعاون بين المنظمات يمكنه أن يعزز ويقوي التوترات القائمة، وبعض الخطابات الاستبعادية والخلافات العنيفة المحتملة ؛ وبالتالي (3) فإن تدريب الجهات الفاعلة الإنسانية المحلية على الإقناع الديني وغير الديني في مجال ترشيد وتحليل الخلافات جنبا إلى جنب مع الجهات الفاعلة الأخرى في المنظمات الإقليمية والدولية وفي إطار فضاء الوساطة الآمن من شأنه أن يعطي الفرصة للجهات الفاعلة ذات الملامح الدينية والثقافية المتنوعة، للالتقاء فعليا في مكان يمكن وصفه بأنه “محايد” والحوار حول تطوير أعمال ملموسة وأرضية مشتركة.

ومع ذلك، فإن مبادرة الوساطة الإنسانية هذه ليست مجرد عرض للحوار والوساطة والتيسير، ولكنها تهدف أيضا إلى تعزيز قدرات ترشيد الخلاف في أوساط العاملين في المجال الإنساني في مختلف المناطق في الشرق الأوسط، وفي منطقة الساحل وشمال إفريقيا.

وفقًا لأبحاث مؤسسة قرطبة بجنيف، فإن فتح مساحة للحوار وبناء قدرات كل من الجهات الفاعلة المحلية والدولية (بما في ذلك المنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية)، سيضمن تغييرًا عميقًا على المدى الطويل، حرصا على تنفيذ عمل الإنساني متكيف مع السياق الذي يندرج فيه.

تتمثل أحد الدوافع الرئيسية لتنفيذ هذا المشروع على حقيقة أنه في أعقاب أحداث 11 سبتمبر 2001 ، وبينما أصبح خطاب “الحرب على الإرهاب” متواترا، أصبحت العديد من المنظمات غير الحكومية في العالم الإسلامي في موضع شكوك لا أساس لها في بعض الأحيان، مما أدى بهم لتقييد مهمتهم. ويرجع هذا التقييد بشكل خاص إلى القيود التي خضعت لها مثل الإدراج في القائمة السوداء أو إغلاق المكاتب أو تجميد الأصول.

في أوائل سنوات 2000، اكتسبت مؤسسة قرطبة بجنيف خبرة في الوساطة بين المنظمات ذات النظم القيمية المختلفة، بعد طلبات مختلفة من العالم العربي. وقد أدى هذا العمل إلى تنظيم اجتماع حيث أتيحت للمنظمات الإنسانية الإسلامية الفرصة لعرض قيمها ومبادئها ومنهجيتها ومفهومها الخاص للعمل الخيري. أعقب ذلك ثلاث سنوات من العمل (2005 – 2008) بين هذه المنظمات وبإشراف من مؤسسة قرطبة بجنيف، أدى في النهاية إلى إصدار ميثاق بعنوان “ميثاق العمل الخيري”. ولقد تم عرض ورقة العمل هذه والتي تتكون من 21 مبدء إنسانيًا تم تجميعها في 7 فصول، في الدوحة عام 2008 في المؤتمر الثاني للعمل الخيري الذي نظمته منظمة التعاون الإسلامي. وعملت مؤسسة قرطبة بجنيف في مارس 2017 كمستشار فني في اجتماع “مؤتمر العمل الإنساني الدولي” الذي جمع في الدوحة 200 ممثلاً لأكثر من 70 وكالة إنسانية من آسيا وأفريقيا وأوروبا وأمريكا وممثلين عن الأمم المتحدة ومنظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية وخبراء آخرين لمناقشة كيفية العمل معا من أجل الاستجابة بشكل أفضل للاحتياجات الإنسانية المتنامية.

لذلك ترمي المبادرة اللبنانية إلى أن تكون استمرارًا لهذا المشروع الذي يهدف إلى المزيد من التعاون الإنساني من أجل ترشيد الخلافات بطريقة لا عنفية، حرصا على “عدم الإضرار” والاستجابة للحاجة الماسة لتكيّف العمل الإنساني مع السياق الذي يعمل فيه. وبالتالي، يمكننا أن نخلص إلى أن احترام المبادئ الإنسانية – الحياد والنزاهة والاستقلالية والإنسانية – سيتعزز من خلال زيادة التعاون والحوار الشامل بين الجهات الفاعلة في المجال الإنساني بمختلف المرجعيات والملامح.


[1] لمزيد من المعلومات: https://www.reuters.com/article/us-lebanon-politics/lebanons-hariri-rescinds-resignation-drawing-line-under-crisis-idUSKBN1DZ1CG

[2] لمزيد من المعلومات: https://moulahazat.com/2017/06/18/the-adwan-electoral-law-from-bad-to-worse/

[3]  https://www.lorientlejour.com/article/1094934/-li-baladi-un-mouvement-politique-est-ne.html

[4] https://orientxxi.info/magazine/les-refugies-syriens-une-richesse-inesperee-pour-l-economie-libanaise,2200

[5]  مقال: دايلي ستار، م.غ.ح.، مسؤولون ينتقدون التهديدات الأمريكية بشأن وقف التمويل عن الأنروا، 11 يناير، 2018.
Daily Star, NGOs, Officials slam U.S threats to cut UNRWA funding, January 11, 2018.

Partager cette publication