بعد أكثر من سبعة أشهر، يظل الحراك في الجزائر نابضًا بالحياة

Harak Algiers

بعد أكثر من سبعة أشهر، يظل الحراك في الجزائر نابضًا بالحياة

أسرّ شابٌ أفريقي أبحرَ هربًا من بلاده إلى المُخرجة والممثلة الفرنسية-السنغالية ماتي ديوب سنة 2008 أنه: “عندما نقرّر المغادرة، نكون قد متنا بالفعل.” ويعرف جزءٌ كبير من المرشحين الأفارقة للجوء في أوروبا الموت مرّة ثانية، موتٌ حقيقي هذه المرّة، في خضم أمواج البحر المتوسط.

بقلم عباس عروة

بقلم عباس عروة

أسرّ شابٌ أفريقي أبحرَ هربًا من بلاده إلى المُخرجة والممثلة الفرنسية-السنغالية ماتي ديوب سنة 2008 أنه: “عندما نقرّر المغادرة، نكون قد متنا بالفعل.” [1] ويعرف جزءٌ كبير من المرشحين الأفارقة للجوء في أوروبا الموت مرّة ثانية، موتٌ حقيقي هذه المرّة، في خضم أمواج البحر المتوسط.

كانت الجزائر تحتضر لسنوات طويلة كرئيسها الذي تشبّث بالسلطة بشكل مهين بعد عقدين من الزمن على تعيينه من قِبل الجيش. وجاءت الانتفاضة الشعبية اللاعنفية، التي انطلقت في 22 فبراير الماضي، لإنعاش البلاد فأعادت إلى الشباب الجزائري الأمل والتعطّش إلى الحياة. ومنذ الأسابيع الأولى للحراك، كنّا نقرأ على الجدران واللافتات: “لأوّل مرة لا أريد أن أتركك يا بلدي الجزائر”، “هذه أخبار سارّة! إنّه آخر قارب [يعبر البحر المتوسط]. لقد تمّ كراؤه من قِبل النظام”. هكذا يعود الأمل إلى شباب عاطل ويبرز الاعتزاز بالانتماء إلى الوطن من جديد، بعد أن خُنق من جرّاء عقود من الحڤرة، أيْ الظلم والإذلال.

في الشهر الثامن من الانتفاضة، تُواصل قيادة أركان الجيش الوطني الشعبي تجاهل مطالب الجزائريين ورفض فكرة إجراء حوار وطني حقيقي. علمًا أنّ هناك طريقة واحدة فقط لحلّ أيّ أزمة سياسية وبناء سلم دائم، وهي الحوار. لأنّ البديل هو فتح باب العنف. فالتملص من الحوار وفرض السلم عن طريق القوة العسكرية والأمنية ليس بناءً للسلم إنّما مجرّد تهدئة. لقد جرّبه النظام العسكري الجزائري في التسعينيات وأفضى إلى النتائج التي نعرفها. ورُفضت جميع الدعوات إلى الحوار التي أطلقتها أصوات الحكمة مثل عبد الحميد مهري وعبد القادر حشاني وحسين آيت أحمد رحمهم الله وغيرهم، وجميعهم تمّت تصفيتهم رمزيًا أو جسديًا.

الحوار الحقيقي عملية جامعة ومهيكلة

يعلم الجزائريون أنّ الحوار هو الترياق الواقي من العنف وأنّ مظالمهم ومطالبهم لا بدّ أن تنتقل يومًا ما من الشارع والساحات العمومية إلى إطار رسمي وتمثيلي. لكنهم يريدون حوارًا حقيقيًا قادرًا على إخراج البلاد من أزمة سياسية طال أمدها. غير أنّ القوى المناهضة للتغيير، العسكرية منها أو المدنية، المستفيدة من الوضع الراهن، تفعل كل ما في وسعها لحرف مسار الحوار عن وظيفته الأساسية وجعله أداة تخدم مصالحها: الحصول على شبه شرعية والتمسّك بالسلطة السياسية والاقتصادية بالنسبة للبعض، واستعادة المصداقية لدى الشعب والعذرية السياسية بالنسبة لآخرين.

يدرك الجزائريون أنه لا يمكن إجراء حوار حقيقي إلا في جو يسوده الهدوء. لذلك فهم يطالبون النظام باستمرار باتخاذ تدابير كفيلة بإعادة بناء الثقة بين السلطة الفعلية والشعب، مثل استقلالية القضاء وحرية الصحافة والإعلام وفتح مجال العمل السياسي والجمعوي والكفّ عن المضايقات والمتابعات وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وسجناء الرأي.

ولكي يكون للحوار حظّ من النجاح، يجب أن يكون جامعًا وتشاركيًا، يشمل جميع أصحاب المصلحة. فلا بدّ من المشاركة الفعلية لكافة المعنيين بمستقبل الجزائر من ممثلّي الحراك وممثّلي السلطة الحاكمة الفعلية وممثّلي المعارضة ذات المصداقية ومنظمات المجتمع المدني والنساء والشباب ورجال الدين والأعيان والمثقفين وقطاع الأعمال. فاتّساع انخراط شرائح المجتمع في الحوار ضمان لتبني مخرجاته واستدامة تنفيذ الاتفاق الذي يتمّ التوصل إليه.

على عكس المحاولات الأخيرة للحوارات التي أُطلقت من قِبل السلطة أو من طبقة سياسية معيّنة، فإنّ الحوار الحقيقي ليس مجرّد اجتماع أو اجتماعين، يُختم بإعلان نهائي تمّ إعداده مسبقًا. إنه عبارة عن مسار مهيكل قد يطول أو يقصر مع قواعد وإجراءات واضحة المعالم. ويعتمد نجاح أو فشل الحوار الوطني على العديد من العوامل، منها المرتبطة بالسياق السياسي ومنها المتعلّقة بالمسار نفسه [2]. فدعم الجماهير والنخب الوطنية وتمثيل وعدد وطريقة اختيار المشاركين وإجراءات اتخاذ القرارات واختيار الميسّرين، كلّها عوامل حاسمة.

المخرج من الأزمة

هناك عدة طرق ممكنة لحلّ الأزمة السياسية في الجزائر. إحداها إقرار النظام بضرورة إعادة السيادة إلى الشعب ومبادرته بالانخراط في حوار مع القوى السياسية في البلاد، والعمل معًا من أجل انتقال ديمقراطي حقيقي. كانت هذه دائمًا رغبة الجزائريين، لأنها الطريقة الأقلّ كلفة، لكن للأسف، اتّضح مع الوقت أنّ هذا السيناريو ضعيف الاحتمال. ذلك لأننّا في حالة نزاع غير متكافئ، حيث يعتقد النظام العسكري أنه لا يحتاج إلى الدخول في حوار وأنّ لديه الوسائل لحلّ الأزمة لوحده وبطريقته الخاصة. ويتمثل نهجٌ بديل في تدخّل طرفٍ ثالث لإقناع أو إكراه النظام بقبول مبدأ الحوار. غير أنّ الشعب الجزائري استبعد هذا الأمر لأنه يرفض أيّ تدخل أجنبي، ولو كان من طرف صديق ودود. لذلك انتهج الشعب سبيلًا آخر، وهو المقاومة السلمية، لاستعادة توازن القوى وإجبار النظام على الحوار.

تستمرّ المقاومة الشعبية السلمية في الجزائر لأكثر من سبعة أشهر لكونها تحترم خمسة مبادئ أساسية:

1. الوحدة في إطار التنوع: لقد كسر الحراك جميع الحواجز: الأيديولوجية والمناطقية وبين الأجيال وبين الجنسين وبين الصحيح والعليل وبين الداخل والخارج، إلخ. وفي إطار تنوّع هادئ، يعكف الجزائريون معًا على وضع حدّ للسلطوية والفساد، متطلّعين إلى مجتمع جامع ودولة قانون وحكم راشد تتّسع للجميع ويتمتع فيها المواطن بالحرية والكرامة.

2. الرؤية المشتركة: في بداية الحراك هتف المتظاهرون “لا لولاية خامسة” لبوتفليقة، لكن بعد بضعة أسابيع، تقاربت المطالب لتنصهر في مطلب واحد واضح: أولوية السياسي على العسكري. فالشعارات الرئيسية التي نراها اليوم هي: “مدنية ماشي (ليست) عسكرية”، “جمهورية ماشي كازيرنا (ليست ثكنة)”.

3. اللاعنف: لم تكن الانتفاضة لتستمر لولا التزامها وتمسكها بالمنهج اللاعنفي. فالنظام الذي يُتقن إدارة العنف واستخدامه لصالحه أخذه الحراك على حين غرّة فهو يتخبّط في ميدان لا يُحسن السيطرة عليه.

4. الاستقلالية: لا يريد الجزائريون أيّ تدخّل في شؤونهم، فهم يؤمنون بأنهم وحدهم المخوّلون بإحداث التغيير الذي يصبون إليه. ولديهم رسالة واحدة إلى الحكومات الأجنبية: إنكم بدعمكم لنظام استبدادي وفاسد في الجزائر تنتهكون قِيَمكم ولا تخدمون مصالح بلدانكم.

5. الصبر: راهن النظام عدة مرات على تراجع الاحتجاجات عند اقتراب شهر رمضان، وعطلة الصيف. لكنه فشل في رهانه. فقد كان المواطنون حاضرين كل أسبوع وبقوّة، يتحمّلون أمطار وبرد الشتاء والعطش والجوع خلال شهر رمضان وحرّ الصيف.

إنّ “ثورة الابتسامة” غيرّت بالفعل مصير البلاد. فجزائر بعد 22 فبراير لن تكون أبدًا مثل ما كانت عليه من قبل. ويُمكن اعتبار الأسابيع الـ 33 الماضية مدرسة حقيقية للوعي السياسي للمواطنين لا سيما الشباب. إنّ النظام التسلّطي الفاسد والمفسِد لن يكون له أبدًا موطئ قدم في جزائر الغد بإذن الله. وإنّ الرهان على إمكانية استنساخه ليس سوى خلل في البصيرة وخطأ جسيم في التقدير.


هوامش:

[1] Augustin Trapenard. La traversée de Mati Diop : Entretien avec Mati Diop. Boomerang. France Inter, 30 septembre 2019.

[2] Thania Paffenholz, Anne Zachariassen, and Cindy Helfer. What Makes or Breaks National Dialogues? Inclusive Peace & Transition Initiative. The Graduate Institute of International and Development Studies. Geneva, October 2017.

Share this post