التبادلات الفقهية الإسلامية كدعم للحلول القائمة على الوساطة

التبادلات الفقهية الإسلامية كدعم للحلول القائمة على الوساطة

بقلم الأخضر غطاس Français | English

وفقًا للجنة الدولية للصليب الأحمر، من بين 450 جماعة مسلحة تم تحديدها في عام 2023 على أنها جديرة بالاهتمام في ما يتعلق بمجال العمل الإنساني، 294 منها منخرطة في خلافات عنيفة في أفريقيا والشرق الأوسط1. وأشارت إحاطة اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى أن “معظم الجماعات المسلحة ترغب في التعامل […] لكن الدول تمثل العقبة الأساسية أمام هذا التعامل [مما] يتعارض مع الأسباب التي يُستشهد بها بشكل متكرر من قِبل الجهات المانحة أو الدول أو المنظمات الإنسانية الأخرى، لعدم قيامهم بتمويل أو تسهيل أو حتى محاولة التعامل مع الجماعات المسلحة.”2 كما إن أكثر من نصف النزاعات المسلحة تشمل حاليًا جماعات مسلحة تعبّر عن مصالحها ومطالبها بخطاب إسلامي صريح3. ويرتبط عدد كبير من هذه الصراعات بجماعات جهادية مسلحة تؤكد على شرعيتها الدينية المستندة إلى المرجعية الإسلامية، على النحو الذي حدده علماء الدين في كل مجموعة.

دفعت الأحداث السياسية الكبرى في عامي 2022 و2023 منطقة الساحل إلى وضع إنساني غير مسبوق. فوفقًا للاستعراض الإنساني الذي أصدره مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة لشهر مارس 2024، هناك 35.2 مليون شخص معرض للخطر في المنطقة، بما في ذلك النساء والأطفال والرجال، بحاجة إلى المساعدة الإنسانية في مالي وبوركينا فاسو والنيجر. وبالإضافة إلى ذلك، تضم المنطقة 5.6 مليون نازح داخليًا و1.7 مليون لاجئ4. ويعني ذلك أن واحدًا من كل خمسة أشخاص في منطقة الساحل الأوسط يحتاج إلى المساعدة5. وفي جميع أنحاء منطقة الساحل الأوسط، زادت الوفيات الناجمة عن العنف السياسي بنسبة 38%، والوفيات بين المدنيين بأكثر من 18%6. ومع تصاعد العنف في العديد من الصراعات، لا سيما في مناطق غرب أفريقيا، كانت هناك دعوات من المجتمعات المحلية ومحاولات من قِبل الحكومات، على سبيل المثال في جيبو ببوركينا فاسو، لاستكشاف حلول عبر الوساطة تهدف إلى الحد من المعاناة والإكراه الذي تواجهه المجتمعات المدنية في المناطق الخاضعة كليًا أو جزئيًا لسيطرة الجماعات المسلحة7.

ونظرًا للنتائج المحدودة التي حققتها الحملات العسكرية من حيث فض النزاعات، فقد دعت أصوات في المجتمعات المتضررة من أعمال العنف، فضلًا عن مسؤولين سابقين، إلى تغيير المسار والنظر في حوارات قد تؤدي إلى رفع الحصارات أو إنقاذ المدنيين غير المقاتلين في الصراعات الجارية8.

وفي حديثه في جامعة جنيف الشهر الماضي، أشار إسماعيل شرقي، مفوض الاتحاد الأفريقي السابق للسلام والأمن، إلى فشل الأساليب السابقة لتحقيق الاستقرار في المنطقة. فعلى الرغم من الجهود الدولية والمحلية العديدة، افتقرت هذه الاستراتيجيات إلى التنسيق والتماسك، مما أدى إلى نتائج تكاد تكون معدومة. وفي مقابل ذلك، يقترح شرقي مقاربة عالمية تضمن الأمن البشري وكرامة السكان. وشدد على وجه الخصوص على ضرورة إشراك القادة والسلطات المحلية في تطوير وتنفيذ السياسات، حيث إن معرفتهم بالواقع المحلي أمر بالغ الأهمية لتحقيق الاستقرار الفعال9.

تعمل الجهات الفاعلة في مجال السلام مع قادة المجتمع والزعماء الدينيين في المسار الثاني لكسر الجمود، واستكشاف حلول الوساطة المحلية للحصارات، وإغلاق المدارس، والوصول إلى المساعدات الإنسانية. وقد أسفرت العديد من جهود التعامل هذه عن نتائج ملموسة من حيث رفع الحصارات، أو السماح بتدفق المساعدات الإنسانية، أو إعادة فتح المدارس في منطقة الساحل. ويأخذ هذا التعامل مع علماء الدين من الجماعات المسلحة ذات المرجعية والرؤية الكونية الإسلامية شكل تبادلات حول أساسيات الفقه الإسلامي. إذ يستكشفون الخيارات المختلفة التي يقدمها الفقه الإسلامي لتحسين الوضع في سياقات الصراع المختلفة بخصوص قضايا مثل قواعد سير الأعمال العدائية، والحكم المحلي، وفي نهاية المطاف، شروط المفاوضات والحلول المستديمة عبر الوساطة. ويعد هذا الجهد بمثابة نوع من دعم عملية الوساطة، على غرار ما يتم القيام به عند إشراك القادة السياسيين أو العسكريين للجماعات المسلحة ذات الرؤية الكونية العلمانية. وفي هذه التبادلات يتم التعامل والتبادل بين الفقهاء.

وتدعم مثل هذه العملية جهود الوساطة وبناء السلام من خلال رفع وعي الجماعات المسلحة بالخيارات المختلفة التي يوفّرها الفقه الإسلامي لسياساتها وممارساتها. وتشمل الأمثلة على ذلك المسؤولية عن رفاهية السكان الخاضعين لتحكّم المتمردين (توفير الغذاء والتعليم والخدمات الصحية)، القانون الإسلامي للحرب، المواقف تجاه الأقليات العرقية أو الدينية، والدروس المستفادة من الموروث الإسلامي (مثل صلح الحديبية) فيما يتعلق بشروط وقف إطلاق النار والهدنة واتفاقيات السلام. وتعدد الخيارات الناتج عن هذه التبادلات يزيد من مرونة المفاوضات ويحول دون تصلب المواقف. إن المزيد من الخيارات والوعي بالاختلافات بين سياقات الصراع يخلق مساحة أكبر للحلول المستديمة.

إن تسهيل المحادثات الفقهية بين العلماء المسلمين ذوي المصداقية والمؤثرين، الأعضاء أو المقربين من الهيئات الاستشارية (مجالس الشورى) والقانونية (المجالس التشريعية) للجماعات المسلحة ذات التوجه الديني، حول القضايا العملية المتعلقة بالحكم على سبيل المثال، سيتيح عملية إعادة تفسير حقيقية وتغيير مواقف وسلوك هذه الجماعات تجاه عدم التطرف واللاعنف، ونحو الحكم الذي يحترم جميع السكان الذين هم تحت سيطرتهم، مع الاستعداد للحوار كلما أمكن ذلك.

يركّز عمل التيسير على بُعد السياق، مما يساعد على فهمه وقراءته. في الواقع، في عملية دعم الوساطة، غالبًا ما يساعد الوسطاء الأطراف على فهم السياق (الدولي والمحلي) بشكل أفضل حتى يتمكنوا من اتخاذ قرارات مستنيرة بشكل أفضل. ويساعد التيسير أيضًا في عملية التفسير، من خلال توفير الموارد لخيارات تفسير إضافية، مثل التجارب من أماكن أو سياقات تاريخية أخرى. ويمكنه أيضًا تقديم خيارات للعمل في موقف معين، من أجل المساعدة في ترشيد العمل أو توجيهه بطريقة تتوافق مع الفقه والوسطية والحوار.

تعمل الجماعات المسلحة ذات التوجه الديني وفق مرجعية (نظام قيم) تحدد موقفها وسلوكها تجاه الآخرين. كما أنها تعمل ضمن سياق محدد. وتشابك المرجعية والسياق يؤدي إلى عملية تفسير لكيفية استخدام المرجعية عمليًا لتحقيق الهدف المنشود10. إن عملية التفسير (إعادة قراءة نظام القيم الذي لا يتغير في حد ذاته) تُسمى اجتهادًا في السياق الإسلامي. وينتج ذلك إطارًا قانونيًا يحدد ممارسات وأفعال الجماعات المسلحة ذات التوجه الديني. وقد أشار الإمام ابن القيم (1292-1350) إلى الأصل والطريق المسلوكة والغاية المطلوبة11. فمن الواضح أنه بدءًا من نفس الأصل (المرجعية)، تختلف الطرق المسلوكة (احتمالات التفسير) للوصول إلى نفس الغاية المطلوبة. والطريق، المرتبطة بالتفسير، يجب أن تخدم الغاية وأن تكون متوافقة مع المرجعية. فإذا كانت الطريق هي العمل المسلح، يجب أن يتوافق ذلك مع القانون الإسلامي للحرب (الذي يشتمل على العديد من القواسم المشتركة مع القانون الدولي الإنساني). ويُسمى الامتثال للمعيار المرجعي بالوسطية، التي هي عكس الغلو12

إن عملية التفسير/الاجتهاد ليست مفتوحة للجميع، فهي تتطلب الشرعية والخبرة. وهذا هو دور وواجب علماء الإسلام المعترف بهم وذوي المصداقية. إن (إعادة)التفسير يمكن أن يكون نتيجة لمداولات داخلية حقيقية بين العلماء داخل المجموعات الناشطة أو قربها. ويمكن أيضًا أن يساعد في ذلك طرف ثالث، على دراية بالمرجعية والسياق، وتنظر إليه الأطراف على أنه صادق ومقسط وغير منحاز.

إنّ معهد قرطبة للسلام بجنيف يبذل مثل هذه الجهود مع شركائه المحليين لاستكشاف “مسارات فقهية”. وتهدف جهود دعم العملية هذه إلى تعزيز الوعي بين صانعي السياسات الدوليين بالحوارات ومبادرات حل المشكلات، القائمة على الفقه الإسلامي، والجارية بالفعل. ولأنها متجذرة في رؤية كونية مختلفة، فإنها تشكل في بعض الأحيان تحديًا لصناع السياسات، أو لبعض أطراف الصراع التي تواجه حركات تمرد إسلامية، في فهم “اللغة” التي يتحدث بها المتمردون، وما يؤمنون به بقوة. وتقترح “المسارات الفقهية” سد هذه الفجوة من أجل ترشيد الخلاف.

الأخضر غطاس

يونيو 2024

الإحالات

  1. Matthew Bamber-Zryd. ICRC engagement with armed groups in 2023. ICRC, Geneva, 10 October 2023. ↩︎
  2. ICRC Webinar, Global Mapping of Armed Groups, 6 December 2023. ↩︎
  3. Isak Svensson & Desirée Nilsson. Islamist armed conflicts: A new challenge for conflict resolution? Department of Peace and Conflict Research, Uppsala University, FBA Research-Policy Dialogue on Resolving Islamist Armed Conflicts, October 2021, Stockholm. ↩︎
  4. OCHA. Sahel Dashboard: Humanitarian Overview. 13 March 2024. ↩︎
  5. IOM. One in Five People in the Central Sahel Needs Humanitarian Aid: Now is the Time to Act. 12 January 2024. ↩︎
  6. ACLED. The Sahel: A Deadly New Era in the Decades-Long Conflict. 17 January 2024. ↩︎
  7.  Sam Mednick. Talking to jihadists: How three community leaders took a bold step in Burkina Faso. ‘We discovered that the jihadists have some moral values.’. The New Humanitarian. 25 May 2022. See also:
    Sam Mednick. Burkina Faso to support local talks with jihadists: A Q&A with the minister of reconciliation. ‘Everybody wants peace again.’ The New Humanitarian. 27 April 2022. ↩︎
  8. A Burkinabè community leader. To end the siege on my Burkinabè town, we must open a dialogue with the jihadists. ‘We cannot farm, we cannot raise our livestock, and we cannot trade.’ The New Humanitarian. 8 February 2024. ↩︎
  9. Smail Chergui, Les nouveaux enjeux de paix et de sécurité dans l’espace Méditerranéen : le cas du Sahel. Public conference. University of Geneva, 2 May 2024. ↩︎
  10. Abbas Aroua, Jean-Nicolas Bitter, Simon J. A. Mason. The Role of Value Systems in Conflict Resolution. Policy Perspectives. Vol. 9/9. CSS/ETH Zurich. November 2021. ↩︎
  11. Abbas Aroua. The Origin, the Way and the Goal: Imam Ibn Al-Qayyim’s Typology of Conflict. Cordoba Research Papers. Cordoba Peace Institute – Geneva. June 2023. ↩︎
  12. Abbas Aroua. Addressing Extremism and Violence: The Importance of Terminology. Cordoba Research Papers. Cordoba Peace Institute – Geneva. January 2018. ↩︎

Share this post